«كأني هنا» للشاعرة الفلسطينية إيمان زيّاد: إيقاع الغياب والموت

2023-05-31

رياض خليف

«كأني هنا» هذا هو عنوان العمل الجديد للشاعرة الفلسطينية إيمان زياد، بعد «غيمات بيضاء» و»ماذا لو أطعمتك قلبي؟» وهو نصوص نثريّة تدخل ضمن قصيدة النثر. ولعلّ القراءات الأولى والسريعة لهذا العمل تسجّل نزوع الشاعرة إلى تعميق صورها الشعرية عموما وغلبة التّوتّر والانكسار على نصوصها. وهو ما يلمّح له العنوان. فأداة التّشبيه كأنّ، تجعل الصلة بالـ»هنا» ضبابيّة. ويلمس القارئ أنّ هذه المجموعة النثرية، تلتحف السّواد ويسودها إيقاع الموت والغياب.

ولعلّنا في هذا المجال لا نتحدّث عن إيقاع صوتي لكنّه إيقاع معجمي، يتكرّر هنا وهناك. فمعاجم الموت ومشاهده تسجّل حضورا بارزا في مختلف مفاصل هذا العمل. نكتشف هذا الإيقاع المعجمي في منطقة العناوين الداخلية، أوّل محطة نلتقي فيها بهذا الموت الهائل، متنوع المعاجم والصور والدلالات. فتطالعنا كلمات الموت والجنازة والنعش في هذه العناوين (نعشي قارب نجاة/ جارة الموتى/ يسقط في نعش مجاور/ مثل موت لا شك فيه/ شهية القتلة).

هذه العناوين التي يسيّجها الموت تترك أثرها في النصوص التي تنسج على منوالها حتى يبدو معجم الموت لعبة لغويّة، تنسج بها الشاعرة صورها الشعريّة وتوشّح كونها الشعري. فهو يظهر بدوره حتى في نصوص لم تعنون بمفرداته. فتتكرر في المتن مفردات الجثة والجنازة والموت والشاهدة وغيرها وتبدو مشاهد الدفن والقبر وغير ذلك. فتبدو لغة هذه المجموعة جنائزية، لكنّ الجنائزي في هذه المجموعة يفتقد إلى خطاب التفاعل. فلا رثاء ولا بكاء مثلما اعتدنا في الكتابة الشعرية، بل هي مجرد استعارات تخفي أحزانها..

استعارة الميّت

تكتب الذات الشّاعرة موتها، أو لنقل إنّ الشاعرة تختار الكتابة بضمير الميت. وهي استعارة كبرى تتكرر وتسجل حضورها في عدد من النصوص. فالذات الشاعرة تتناغم مع شخصية الميت، تختارها قناعا لها، فنحن أمام استعارة تصورية، تماثل بين عالمين. عالم الذات الشعرية الواقعية أو المتخيلة (بما أن الذات التي تتكلم في الخطاب الشعري قد تكون خيالية) من جهة، وعالم الموت العجائبي من جهة أخرى. ومن الطبيعي أننا نحتفي في عالم النقد بهذه المماثلة، باعتبارها تشكّل كسرا لرتابة النص، وفتحا لأبوابه على عوالم أخرى، فتتحدث لذلك عن جثتها وعن موتها وعن طقوس مختلفة من طقوس الموت. هذه الاستعارة التي تتجاوز الطابع اللفظي المجرّد، تصبح وسيلة تخييل الصور الشعرية ووصف مشاهد الموت، فتتحدث الذات الشاعرة عن جثتها وجنازتها وتحطم مفهوم الموت التقليدي، فإذا هي تستقبل الموت والمعزين في المقبرة:

أكتب اسمي على الشواهد المجهولة

واستقبل المعزين بقالب حلوى

وأسلّم خوفي للملائكة

وإذا هي جثّة هامدة، تشيّعها الجنازة:

« غيمة تحمل جثتي باستمرار

فلا أقاوم

موسيقى الوهم ترافق الجنازة

ضحكات الضحايا تزفني

وبلا عينين كنت أراهم…»

إنّ الشاعرة تكتب في هذا المجال المشهد الجنائزي، محاولة ضخّ بعض المفارقات فيه والخروج به عن المشهد التقليدي. فإذا هو مرفوق بالموسيقى والضحكات ويجمع بين التشييع والزفّة. فإذا نحن أمام مشهد جنائزي لغوي، تخرج فيه اللغة عن المألوف.

وإذا هي تتخلّص من الموت وتنهض منه:

أنهض من موتي لأموت ثانية في الحلم

أو لأنتشل من بدني عشاء الدود

أو لأملا عيني بتراب الحفرة..

وإذا الموت يتخلى عن قسوته وحزنة وسواده، فينقلب معناه من لحظة فناء إلى لحظة خلود:

فالأمر لن يتعدى أن أصير خالدة

قبل أن تمتصني الحفرة

وأختفي أيضا

أنا لم أكن مخطئة فعلا

قد أغمض عيني قليلا إثر خيبة الأمل»

فالذات الشاعرة تنخرط في المشهد الجنائزي بعمق:

بيني وبينك جيش من الجنائز

أحفر القبور كل ليلة

وأسجي الجثث وأنت تأمرهم بالهروب

فيقفزون إلى التوابيت ثانية

ولعل هذه الكتابة تقوم على تحطيم جمود الموت والموتى، فهي تعيد إحياء هؤلاء وتحريكهم. فهي كتابة تحاول إحداث مفارقات لغوية، لكنّها تصبح شبيهة بعالم الأرواح حيث الموتى يقفزون هنا ويأتون هناك أو يتلقون الأوامر بالهروب. فكتابة الموت في هذه المجموعة توظّف ما يبيحه المخيال الجماعي.

هذا اللعب اللغوي والفلسفي مع الموت، يحمل نفسا عجائبيا في تشكيل الصور وتلوينها، ولعل اقترانه بذات المتكلّم أو ذات الشاعرة يحمل دلالات نفسية مختلفة…لكن كتابة الموت في هذه المجموعة تأخذ بعدا آخر.

استعارة الموت الفلسطيني

لا يبدو هذا الموت الذي تكتبه إيمان زياد تفاعلا مع لحظات مباشرة ومعلنة، فقد اعتدنا كتابة المرثيّات أو إهداءات اليتم والموت والاستشهاد، وغير ذلك من خطابات الموت في الشعر العربي، لكن كتابة الموت في هذه المجموعة لا تخلو من انعكاسات الروح الفلسطينية، تلك الروح التي تواجه الموت بصدور عارية وبشجاعة كبيرة. وهو ما يظهر في مقاطع كثيرة. فيرتبط الموت بالبطولة والاعتقال والتراب والسلاسل..

«الموت بطل هنا

تقول المذيعة اعتقلوا الفتى

ثم انتحر

نثروا التراب

صلوا عليه

ودعوه

ثم بسلاسل غليظة أحكموا قفل قبره»

ويقترن الموت بالصلابة والتحدي…

«لم يكن ليكسرنا الموت حتى…

كنّا سنعود

من جرّة رمادنا لنقول ما لدينا.

إنه الموت الفلسطيني الشجاع في مواجهة المحتل، الذي يلوح أكثر في هذا المقطع:

طفلي أشجع مني/ حين قتلوه برصاصة ساخنة/ ابتسم في وجه القاتل.

فالشاعرة توظف في هذا المجال صورة قتل الأطفال من طرف المحتل. وعلى هذا المنوال، تبدو صورة الصيّاد الذي ستحمل جثّته والذئاب التي ستداهم القرية. فهي صورة لا يغيب عن تشكيلها الواقع الفلسطيني، بما يشهده من مداهمات وحشيّة:

تعوي الذئاب على قمر شاحب معلق في المدى

سيهبط قريبا على أطراف قريتنا.

ليحمل جثة الصياد ويمضي

إنّ كتابة الموت تكشف عن وجوه جمالية وفلسفيّة كثيرة، تخفيها نصوص إيمان زياد. فهي كتابة تستوجب الحفر في تفاصيلها وآلامها. فالاستهلاك اللغوي للموت لا يمكن أن ينفصل عن تراجيديا الذات وأحاسيسها وقتامة الرّاهن المكتظ بالأوجاع.

كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي