رواية «الأفق الأعلى»: سردٌ حول الموت مفعمٌ بالحياة

2023-05-22

هيڤا نبي

«ها أنا وراءك تماماً… أحدق الآن إلى الجزء الخلفي من رأسك وأنت تقرأ هذه الكلمات»، بهذه الافتتاحية يخاطبنا ملاك الموت في رواية «الأفق الأعلى» – المدرجة ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربي 2023- خطاب جارٍ لجاره، بلا توددٍ ولا عداء. وبهذه الكلمات أيضاً تقدم إلينا الكاتبة فاطمة عبد الحميد في هذا العمل السردي المتقن في شِعريته صورة جديدة ومختلفة لملاك الموت، ملاك يمسك بيد الأحياء قبل سوقهم كصديق إلى الحفرة الأخيرة.

وجدت نفسي أتساءل حول أمرين: يتعلق الأمر الأول بكيفية بقاء الكاتبة متماسكة وهي تمشي الهوينا حيناً، وتقفز كطفلة شقية حيناً آخر على الحافة الحادة الممتدة بين الواقع والفانتازيا.. إنها حافة خطرة وكل انزلاق أو سهو يؤدي لنتائج لا تسر، لكن الكاتبة لا تنزلق، بل تنقلنا بخفة بين الواقعي والخيالي، نطل على أحد العالمين ونعيش في الآخر ونتلمس منطقهما المختلفين من وجهتي نظر دون ميل أو انحراف.

أما الأمر الآخر فيتعلق بقدرة الكاتبة على اعطاء كل شخصية من شخصيات روايتها حياتين: حياة شبه بدائية جَمعية، وحياة ذاتية مُختارة. وأقصد بالبدائية حياة ترضخ فيها خيارات الفرد لقوانين الجماعة ولصالحها دون إيلاء أي أهمية للاختيارات الفردية والميول الذاتية. في الحالة الأولى هناك دائماً أحد ما يختار لغيره النمط المناسب للعيش، أما في النمط الآخر فهناك الفرد وما يقرره بنفسه مدفوعاً بعواطفه الحقيقية ورغباته التي لا تخضع لمعايير أو فروضات اجتماعية، أيا كان شكلها وأياً كانت أهميتها.

تتناول رواية «الأفق الأعلى» قصة سليمان، الطفل الذي تجبره والدته في سن الثالثة عشرة على الزواج ببنت خالتها لضمان امتداد العائلة. وهنا، وبرعاية من الراوي ملاك الموت، تتحدث الكاتبة عن زمن انتبه فجأة إلى الثمن الباهظ لمقولة «الأم بتلم». الأم حمدة تلم حقاً، لا بل تفكر بالهدف البعيد في إنقاذ سلالة العائلة، لكن بأثمان باهظة، يدفعها ابنها قبل الجميع.

المفارقة أن الطفل الذي تدفعه الأم حمدة عنوة لتمثيل دور الكبار وفعل ما يفعله الرجال، يبقى عالقاً في طفولته، محباً لكرة القدم وصنع بيوت من الكبريت. هذا التابع الذي تصنعه الأم ومن ثَم الزوجة، تابع لها وللعائلة والسلالة، لن يرفع رأسه مجدداً إلا في الخمسين من عمره، يوم يفلت من أمرهما، فينظر للمرة الأولى نظرة كائن منفرد بذاته، ليقطع الحبل السري الذي يلحقه بالأم لأول مرة ويلتقي بذاته على النافذة المقابلة.

يحدث كل ما يحدث في الرواية انطلاقاً من موت الأم والزوجة، أي موت السلطة التي تنادي بالامتثال الأعمى للجماعة، عندها يظهر تباين حياة كل الشخصيات كأنها كانت قبل غياب السلطة في مرحلة كمون طويل الأمد. إزاحة السلطة يُقسم حياة بطل الرواية سليمان إلى مرحلتين، قبل وبعد: حالة بدائية ممتثلة، وأخرى ذاتية أصيلة.

في زمن البدائية تتسلط والدته على حياته بشكل كامل، فتجعل سداً بينه وبين طفولته بتزويجه من امرأة تكبره بعشر سنوات إلى ان تنتهي هذه المرحلة على يد الجارة سمر. معها يشبه سليمان أنكيدو وهو يتحضّر ويتهذب ويكتشف في أعماقه ذاته الحقيقية غير المجملة وغير المقولبة. يد الأنثى هذه والحب الذي تفجره في داخله يعيدان إلى سليمان طفولته وتجعلانه في الوقت نفسه، رجلاً كامل الرجولة والمهابة. يدخل الطفل البالغ الخمسين من عمره سن النضج لتنقضي مرحلة التبعية، بكشفه لذاته الحقيقية على يد الآخر. ليس من العبث أن تنسج الرواية لسمر صورة امرأة عارفة، غاوية، ومختلفة في قولها وحريتها، إنها «شمخة» المُرسلة لترويض أنكيدو بفصله بالحيلة عن الجماعة وقانون الجماعة. لذا فهي تحتاج لعتادها كاملاً لإعادة أنكيدو إلى ذاتيته بجانبيها البريء البسيط والمُغامر الشيطاني.

حالة الانقسام هذه نجدها لدى شخصيات أخرى بدرجات متفاوتة، فللجارة سمر مثلاً جانبان اثنان، جانب مبتذل بدائي لن تستسيغه إن تأملته مطولاً، لأنه مقيّد وخاضع، وجانب آخر حر وقائم على ما تتطلبه الذات بعيداً عن قيود الواقع الاجتماعي وما يتكبده الجسد معزولاً عن الروح. لذا يمكن رؤية جوانب بدائية حيوانية فيها وهي بصحبة آدم كـ«جسد» منفصل أو برفقة زوجها كـ«آلة إنجاب» لا أكثر. في المقابل هناك جانب لم يمسسه أحد، جانب بريء وصادق وهو الجانب المنجذب لسليمان في علاقة متناغمة وجدانياً وجسمانياً.

الحد الفاصل بين المرحلتين في حياة الأبطال لا يرسمها الاهتداء للحب، إذ ليس الحب هو الذي يُخلّص هؤلاء من بدائيتهم. ثيمة الحب رغم سطوتها ليست المركز الذي تتكاتف حوله الأحداث، ولا يأخذ في الرواية المساحة المثالية المتعارف عليها. الفاعل الحاسم للانتقال والتحرر من البدائية هو الصوت الخافت ولكن شديد الحساسية للذات التي تنتبه وتحقق ما تريده بعيداً عن الفروضات والقيود المجتمعية المتكلّفة.

الملاحظ في هذه الرواية أن الأدوار التي تركز وتدعم هذه البدائية تلعبها النساء. النساء هنا هن حاميات الصورة المجتمعية بطريقة تتنافى أحياناً حتى مع غريزة الأمومة لديهن، مثل حرمان حمدة ابنها من الطعام لدفعه للقبول بزواجه: «هل يمكن للأم أن تعاقب ابنها بحرمانه من الأكل؟» حمدة فعلت ذلك.

هناك من بين الشخصيات من يعجز عن إخضاع الثنائية ويبقى في بدائيته لأنه يعجز عن سماع ذاته مرة واحدة، وإن سمع فالقيود سبّاقة إلى تحريفه عن دربه وإبقائه في حالة تبعية مطمئِنة. مثال على ذلك الزوجة نبيلة التي كان قدرها منوطاً بوحمة بنية على وجهها حددت حياتها بالكامل. يرمز هذا التشوه البسيط إلى موت الذات، بقعة واحدة على الوجه تعادل حياة كاملة من البؤس: «سأطلبُكِ غداً لابْنِي سُليمانَ، وافِقِي يا نبيلة! سيكبُرُ الفتى سَريعا، وستجدِينَ نفْسَكِ، قبْلَ أنْ تنتبِهي للأمْرِ، برِفْقَةِ رجُلٍ ضَخْمٍ كوالِدِه.. ولنْ يكترِثَ حِينَها للطْخَةٍ على خدٍّ تعوّدَ عليْها قبْلَ أنْ يُدْرِك!».

الملاحظ في هذه الرواية أن الأدوار التي تركز وتدعم هذه البدائية تلعبها النساء. النساء هنا هن حاميات الصورة المجتمعية بطريقة تتنافى أحياناً حتى مع غريزة الأمومة لديهن، مثل حرمان حمدة ابنها من الطعام لدفعه للقبول بزواجه: «هل يمكن للأم أن تعاقب ابنها بحرمانه من الأكل؟» حمدة فعلت ذلك. منعت عنه الطعام حتى يكف عن الهرب من غرفة نومه ويعود إلى زوجته ويفعل ما يفعله الرجال. حرمته من شرط الحياة الأول من أجل أن يستمر نسل أجداده». هذه الصورة الأخيرة رغم ندرتها ليست غريبة تماماً عن الواقع. إنها مساومات وشراكات وتحالفات تديرها النساء في المجتمعات التي ترى نفسها كامتدادات وتهتم بالصورة العامة لكينونتها بشكل مفرط. هنا يصبح الحبل السري الذي لا يقطع إلا رمزياً عند ولادة الطفل حبل تبعية يربطه بأصل الشجرة تحت تهديد مستمر بقطع الإمداد عنه في حال تمرده على التبعية. وهكذا فلا شيء من الصور النمطية المثالية للامهات ستجدها في هذه الرواية، بل صور عن الأمومية القاسية التي يتحول فيها صوت النداء الحنون للأمهات لصراخ يقطع على الأبناء لذة «اللعبة والزمن والمتعة والأنفاس».

لا يكتفي السرد بهذا الانتقام الصريح من التبعية الأمومية، بل ينتقم كذلك بطريقته الخاصة من خلال التهكم اللذيذ الذي يرافق أشد مواضيع الرواية حساسية، وبقلب الطاولة على التبعية الأمومية من خلال استعادة سليمان لطفولته وهو في الخمسين: «لقدْ أرادوا لهُ أنْ يكونَ رجلًا وهو في الثّالثة عشرةَ، فأرادَ اليومَ، وهو في بدايةِ الخمسينياتِ مِنْ عُمْره، أنْ يكونَ طفلًا». كما ينتقم السرد من سلطة الأم حمدة رمزياً بنفيها من جسم الحكاية وإلحاق كنتها بها، وبالسخرية من فعلها التسلطي، بفعل الشيخوخة أولاً وبالموت ثانياً: «خاصة بعد أن أصبحت أمه مسالمة جداً، ولم تعد قادرة على إدخال أصابعها إلا في عيون المقص».

هذه الرواية النابضة بالحياة في لغتها وحبكتها ومرونة سردها هي الأقدر على سرد العالم من وجهة نظر الموت. كل ما يتحرك في هذه الرواية يطالب بحصته من الحياة، بينما ينظر بقلبه لملاك الموت المتنقل في الأرجاء. الموت لم يعد نقيض الحياة هنا، الرواية تهز الحدود بينهما ساخرة من الحدود ومن واضعيها.

كاتبة سورية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي