القُدرة الأدبية… خليل صويلح في ناحيةُ الماءِ والكلأ

2023-05-19

باسم أحمد القاسم

قد لا يبدو من المألوف أن نفتتح هذا المتن النقدي بشرحٍ معجمي لمفردة «المُوَاضَعات» فهذه غايةٌ تُترك للهوامش، لكنه سيبدو مألوفاً جداً، بل ضرورياً حين يراد للكلام أن يحيط بالإصدار الجديد والقريب من جنس النقد الأدبي للروائي والصحافي السوري خليل صويلح «ناحية الماء والكلأ /مرافعات عن عمل الحكائين» وهكذا فالمواضعة من فعل واضَعَ، واضَع فلانًا على الأمر وافَقَه فيه، والمواضعة هي ما تعارف عليه الناسُ بالتوافق حول قيمة أخلاقية أو معرفية، وجمعها مواضعات، عند هذه العتبة يمكننا أن نرتقي درجةً نحو عبارة جيرار جينت: (إن الأدب مثل أي فعالية أخرى للذهن يتأسس على مُواضعات ليست واعية، إلا في حالات استثنائية) أو ربما يستوقفنا فاليري بقوله عن الأدب من بين كل الفنون (هو الفن الذي تؤدي فيه المواضَعة الدور الأكبر) وهذا ما نتلمسه في ما لو عرضنا مثلاً بضعة سطور على قارئ، وقبل أن يبدأ بقراءتها أخبرناه أن هذه السطور هي شعر عمودي، أو تفعيلة أو نثر فستحضر لديه باللاوعي معرفته الضمنية المسبقة عن مفاتيح التلقي المتواضع عليها لقراءة هذا النمط، أو ذاك لأنه يريد أن يستعمل الأدوات المناسبة (القدرة الأدبية العامة) لإنتاج المعنى، فهو على الأقل، لا بد أن يكون مُنغمسا في مفهوم معين عن القصيدة، فماذا عن فن الرواية، وإلى أي درجة يأخذ الروائيون بعين الاعتبار أن يكون لقراء هذا الفن تلك القدرة الأدبية النافذة.

ليس جديدا على محبرة خليل صويلح، أنها تترك باب مطبخه الروائي موارباً أمام جمهور الرواية، فضلاً عن كتاب هذا الجنس الأدبي أيضاً، ليصيخوا السمع إلى حديث نفسه التي تنازعه البوح بمكابدات خلق العوالم الروائية وشخصياتها، وضبط النفس اللغوي المقلق بين سرد الحقيقة الذاتية لدى المؤلف، وسرد الحقيقة الواقعية في مفاصل عديدة من تقنيات السرد الروائي هذا من جهة، ومن جهة أخرى بوَحهُ بأوزار الكتَبَة في عصر الاستهلاكية التي باتت بهيمنتها على دور النشر، تثقل كاهل التأريخ الأدبي لفن الرواية العربية، وعليه فقد تعددت لدينا مجموعة إصداراته «حفرة الأعمى، نزهة الغراب، قانون حراسة الشهوة، ضد المكتبة» على سبيل رفع الصوت بعد ترك الباب موارباً تجاه ثرثرة عامة على مستوى الذائقة العربية، تدور حول شهوة أن تكون روائياً فتنتحل أوهاماً طارئةً على هذا الفن، وحول لعنةِ أنك روائي حقاً، إلا أن إصدارَه الجديد «ناحية الماء والكلأ / مرافعات عن عمل الحكائين» يتخذُ هذه المرة سياقاً إثرائياً، مبطناً بالسعي إلى خلق مواضعات عربية حول فن الرواية، وهكذا فإنه يفتح باب خلوته على مصراعيه بطريقته الخاصة الموسومة بلغةٍ صارت له امتيازاً كتابياً، آخذاً في الحسبان أهمية أن تشكل فصول الكتاب استفزازاً جمالياً لجمهور الرواية، في محاولة تجعل من أي ثرثرة عامة على مستوى الذائقة العربية جهةً مجدبةً لا يعمرها سوى اليباب والقحط، وكأنه بمرافعاته عن عمل الحكائين يشير ملوحاً لنا: من هنا ناحية الماء والكلأ.

ورغم أن المؤلف يذيل تنويهَهُ في مقدمة الكتاب قائلاً، «هذه العناوين المختارة تأتي كمرافعة عن عمل الحكائين، وتبجيلٍ لصنيعهم، أولئك الذين أهدونا عمراً إضافياً بتدوين حيوات متخيلة، خرجت من رحم الروايات إلى فضاء العيش» إلا أنه ثمة حوارٌ تداولي يتوارى خلف فصول الكتاب، فالمرافعات ليست قرارات وأحكام مطلقة، بل هي بطبيعتها تداولاتٌ لتقديراتٍ وبراهين مع قاض هو في النهاية من يعود إليه إطلاق الأحكام، وربما هذا ما يفسر اختيار المؤلف بعنايةٍ دلالية تتالي فصول الكتاب وكأنه حوارٌ يتدفق بتناغم وينبغي أن لا تقطع سلسلة أفكاره، هذه الحوارية، التي أراد لها أن تكون بين خليل صويلح القارئ، وعموم القراء الآخرين حين كتب «جميع هذه العناوين تم وضعها بسياق مختلف عما كانت عليه قبلاً، تبعاً لمشيئة القارئ وليس الروائي» وبهذا الإقرار يوجه بوصلة القارئ جهةَ التوافق الذوقي حول المادة الخام الصانعة للجماليات الروائية، وتلك المسلمات السردية التي بتوفرها لدى جمهور الرواية العربي يمكنها أن تخلق لديه القدرة الأدبية العامة للتعامل بطريقةٍ أكثر تحديثاً مع هذا الجنس الأدبي ذائع الصيت.

ولكي توفر نسبةً جيدة من الموضوعية لدى المتلقي وهو يطلق عليها حُكماً جمالياً، إن هذا التوجيه يعتمد على لغةٍ تحكي النقدَ حكايةً بأسلوبية تراعي أن المؤلف بصدد تداول مواضعات مع القارئ العام وليس إقرار دروس نظرية في نقد الرواية أو استخدام مفاهيم وصيغ ملتبسة فلسفياً، إن هذه الأسلوبية تؤمن ترسيخ علاقة تراسل مثمرة بينه وبين القارئ، بحيث تخلقُ معرفة ضمنية لديه بالسمات المعاصرة، التي لحقت بفن الرواية، دون أن تبدو إملاءً مفاهيمياً يخلص لدرس النقد الأدبي، وفي الوقت نفسه ترتقي درجات كثيرة فوق مستوى السرد الترويجي الصحافي، الذي يعتبر تسويقياً أكثر من كونه يبني قدرة أدبية، وهنا تبرز الميزة التي وفرها خليل صويلح بتبنيه للسرد المجازي في مساحاتٍ مخصصة ضمن كل فصلٍ من فصول الكتاب كمطيةً لتوصيل خلاصة ذوقية إلى القارئ، مستخدماً لياقة مجازٍ يألفهُ هذا القارئ ويأنس لاستعمالاته:

« فالرواية في نهاية المطاف، سفينة نوحٍ أخرى، في إمكانها الإبحار بكل أنواع الكائنات والأجناس الإبداعية، إذ تهب الروائح والألوان والإيقاعات، تبعاً لجهة الريح، لكنك كقبطان ألا ينبغي أن تخشى عاصفة هوجاء قد تغرق السفينة؟ في هذه الحال ليس أمامك إلا تخفيف حمولة السفينة والاستغناء عما هو فائض.. لا مقدسات في نص قابل للمحو والكتابة».

وعبر هذه العلاقة من التراسل المثمر يفرغ خليل صويلح خطابه الموجه للقارئ من آفة تعالي المثقف، وبرجية الناقد المدرسي وهو ينوع موجات بثه القرائي بين حراثة نصوص ملهمة له على حد تعبيره مقتفياً أثر رواياتٍ اعتبرها مرجعاً جمالياً له في الكتابة وشغف القراءة، وفحص مصائر بعض الروايات والسير واليوميات تحت بند «الكتابة بلا بنج» وهذه الموجة تعتبر الأحدث في تدوينات المؤلف، ينشرها للمرة الأولى، وثمة موجة يخصصها لزج ذاته الروائية في معترك هذه الحراثة واقتفاء المصائر، فهو لن يكتفي بأن تطال حُزم أشعته السينية المشخصة أجسادَ رواياتٍ عتيدة، ورواةٍ بعينهم، بل يعرض ذهنيته الروائية أيضاً وأجساد بعض رواياته لهذه الحزَم، أياً كانت تلك الكسور التي ستظهر للقارئ مع الرضوض النفسية التي تلازم صويلح وهو بصدد تخليق رواية.

يغلبُ على فصول الكتاب حذرٌ اصطلاحي من المؤلف كي لا يسقط في فخ المفاهيم النقدية الملتبسة، فهو يحاول أن يحضُر في أرجاء الكتاب حضورَ القارئ لا الروائي، إلا أنه ثمة ظل لكاريزما خليل صويلح الروائي يرتسم على السياق العام للكتاب، حيث أن هذه الأنماط من المؤلفات تتركُ صناعة القارئ المتخصص لكتب النقد والتنظير الفلسفي الأدبي، وتتجهُ إلى بناء القدرة الأدبية لدى القارئ العام، لتصنع منه قارئاً نوعياً، وهذا ما يستوجب أن تنأى بالقارئ عن علاقةٍ صلبةٍ باردةٍ وجافة مع فحوى الكتاب لتصب تركيزها على توشيج علاقة قرائية ذوقية، ترسخ في القارئ مواضعاتٍ له فيها مساهمةٌ وتوافقٌ جمالي، وعليه فإن كاريزما صويلح الروائي تتدخل لتضخ في فصول الكتاب حيوية جمالية تضفي حبوراً وشغفاً قرائياً عند المتلقي (روائياً كان أم من جمهور الرواية) حين تجمع بين مخاطبات العقلِ والمخيلة والعاطفة هكذا وهي تطل على أجواء ألبيرتو مانغويل، القارئ الشخصي لبورخيس، دينو بوزاتي وازنُ الكلمات بميزان الذهب رؤوف مسعد، نابش دهاليز الذاكرة ومدونها بالعصب العاري، عبد الفتاح كليطو، القارئ برتبة مؤلف ميلان كونديرا، صاحب فن الرواية والوصايا المغدورة غابرييل غارسيا ماركيز، وميزته في أنه صاحب أشهر عامود صحافي في الصحف الإسبانية لسنوات طويلة، بيار بيارد وكتابه كيف تتحدث عن كتبٍ لم تقرأها، إبراهيم أصلان مقطر الكتابة إلى الحدود القصوى، وهكذا ومع أجواء أخرى وفي كل إطلالةٍ عليها يُظهرُ صويلح مواضعَ الماء والكلأ عبر تداولٍ متمكنٍ وشيقٍ يهبُ سماواتِها برقاً ورعداً وسحاباً وعصفَ ريح ثم شمسَ الذائقة الكاشفة.

رغم قلة المهتمين بين الرواة العرب المحترفين بتصدير هذا النمط من الخطاب التواضعي، فإن فعالية جهودهم تشكل أولوية استشفائية للقدرة الأدبية عند القارئ العربي، التي تبدو معلولةً في تلقيها لفن الرواية الأدبية المعاصر، ولا يشكل كتاب الرواية أيضاً استثناءً من الاعتلال، إلا أن الفعال والمجدي في أن يترك هذا الخطاب الأثر البليغ عند هذا القارئ يشكل ضرورة ملحة، ولعل خليل صويلح يقدم أنموذجه الخاص في حرصه على تقديم مستوىً عالٍ من الإثراء الفني الذي من خلاله يموه أمام قارئه بنجاح أي قصدٍ تعليمي أو تنظيري، متجنباً تأطير فن الرواية بمحددات ثابتة، وقد دوّن في صفحات الكتاب الأولى قناعته حول جدوى هذا الأسلوب في سطرٍ عن مقولة باتريك موديانو:

« كل كتاب اعتذار من الذي سبقه، وحجة لكتابة الذي يليه»

‏كاتب من سوريا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي