«العين والإبرة»: دراسات في ألف ليلة وليلة لعبد الفتاح كيليطو

2023-05-13

جان فرانسوا بيران | ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف

يقترح الأكاديمي الفرنسي جان فرانسوا بيران في هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية قراءة عميقة في كتاب «العين والإبرة» دراسات في ألف ليلة وليلة للأكاديمي والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، الذي صدر في أصله الفرنسي عن منشورات لا ديكوفيرت الباريسية عام 2010. وسيعثر القارئ في هذا الكتاب بشكل خاص على الإشكالات التي شغلت اهتمام الأكاديمي والناقد المغربي البارز في سياق قراءته التأويلية للتراث الحكائي العربي. يعمل الكاتب أستاذا للأدب الفرنسي في جامعة ستاندال غرونوبل ويدير مجلة «فيري» التي تعنى بالدراسات الأدبية.

النص

إذا كانت إعادة القراءة لذة بالنسبة لعاشق الأدب فإنه من النادر أن يتحقق ذلك بالنسبة للدراسات والأبحاث النقدية المنذورة لمهام محددة مثل، التدريس والبحث العلمي. وإذا كنا نعيد قراءتها فلكي نعثر فيها على هذه المعلومة أو تلك. وهذا لعمري مصير «الآداب الثانوية» التي يغلب طابعها الوظيفي على قيمتها، فيما تبقى قابلية الاكتشاف والإبداع إلى ما لا نهاية سمة لما يعتبره بعضنا «أعمالا أدبية». بيد أن بعض الأبحاث النقدية تملك بالفعل هذه القدرة العجيبة على أن تبدع باطراد بواسطة إعادة القراءة؛ وهو ما ينطبق على الكتاب الذي نعتزم قراءته.

سوف نخوض لا محالة في جدال لا حدود له في خصوص المنزلة الأدبية لألف ليلة وليلة: هل يتعلق الأمر بإنتاج ثقافة شفهية متعددة الأصوات، أو إبداعا صادرا في مرحلة لاحقة عن كاتب أو جماعة من الكتاب؟ ثم كيف نفسر هذه المفارقة المتمثلة في الاحتقار الذي كان عرضة له لأمد طويل من لدن دارسي الأدب ووضعيته الراهنة بوصفه جزءا من تراث الأدب العالمي. وهذا أحد الأسئلة التي طرحها عبد الفتاح كيليطو في كتابه «العرب وفن الحكي».

الثقافة الشفهية

ونكتشف في كتاب «العين والإبرة» أن بعض حكايات ألف ليلة وليلة تنفتح على هذه الإشكالية. يتعلق الأمر بحكايات ذات قيمة ثمينة بمكان بحيث ينبغي أن لا تروى إطلاقاً، وإنما يكتفى بقراءتها لجمهور منتقى بعناية. يتعلق الأمر بمستهل حكاية سيف الملوك حيث نكتشف ملكا استمع إلى كل الحكايات وأصبح يطالب بحكايات لم يسبق أن رويت، وأرسل في سبيل هذا المسعى أحد مماليكه مهددا في حال الفشل بأوخم العواقب. ويروى أنه بمجرد أن عاد المبعوث بالحكاية فإنها تميزت بقدرتها العجيبة على تخليص سيف الملوك من الملل في كل مرة يعمد فيها إلى قراءتها. وإذا كانت آخر الحكايات لا تشذ عن الاستثناء فلأن قابليتها للتجدد والحياة والولادة من جديد، كما يؤكد عبد الفتاح كيليطو من القوة بحيث تضاعف وتعيد توجيه كل الكتب، وفق إيقاع متكرر وغير متوقع. ثمة إذن في ألف ليلة وليلة حكاية تؤكد تفوق الأدب المكتوب على الثقافة الشفهية:

الجمهور الذي ينبغي أن تتوجه اليه الحكاية هو جمهور متميز ومحدود: الملوك والوزراء وأهل المعرفة. جمهور يعمل على صيانة النص وتصحيح عملية نقله ومعتاد على الكتب. من شروط الشيخ كذلك أن تقرأ الحكاية لا أن تروى. وهذا يعني أن ثمة خطا فاصلا بين ثقافتين: ثقافة العوام وهي شفهية لا غير، وثقافة عالمة تتميز أساسا بالكتابة. ويجري اعتبارا لذلك إقصاء العبيد والأميين والأطفال من تلقي الحكاية.

لكن كيف أتيح لشهرزاد أن تحيط علما بها؟ يقينا أنها كانت أديبة ذات مقام رفيع، لأنها لم تسمع الحكايات التي ترويها كل ليلة وإنما قرأتها: أساتذتها هي الكتب فقط والبالغ عددها ألفا، حيث درست الطب والشعر والتاريخ وأقوال الحكماء والملوك. أما في ما يخص حكاية سيف الملوك فقد قدمتها الراوية للملك كما يلي: هذه حكاية عجيبة وصلتنا من نسخة صحيحة.

ثمة إذن حكايات ثمينة بحيث يتحتم الحرص الدقيق على صحة انتقالها عبر الرواة وقيمة تأويلها. ما العلة في ذلك إذن؟ فكما يمكن للدواء أن يتحول إلى سم فإنه يمكن للحكاية التي تنقذ أن تقتل. ويمثل ذلك أحد الخيوط الناظمة لتأمل عبد الفتاح كيليطو في هذا البحث، ومحور اشتغال الفصل الموسوم «الكتاب الذي يقتل» ثمة مؤلفون يفضلون إتلاف ما كتبوه على أن يخاطروا بتركه عرضة لقراء سيئين.

الكتاب الذي يقتل في ألف ليلة وليلة هو الذي قام الطبيب دوبان بتسميمه والذي استمر برأسه المقطوع في تحريض الملك يونان على تصفح تلكم الصفحات، وحيث تتيح قراءة ثلاثة سطور يسار الصفحة الإجابة عن كل الأسئلة. ونعرف أن الصفحات الملصقة، أرغمت الملك على تبليل أصبعه كي يتمكن من فصلها والخلوص إلى ما يأمله، أي إلى مجال موته الشخصي. كان هذا الطبيب غريب الأطوار الذي يسافر محملا بكل كتبه قد شافى الملك من الجذام بواسطة دواء يتضمن مطرقة خشبية تحدث ملامستها تعرقا ذا منافع صحية. رغب الملك في قتله بتأثير وزيره الحسود فكان أن عثر الطبيب على وسيلة يضع فيها جسده من جديد في مواجهة علمه، وليس ثمة غير هذا الكتاب المسموم الخالي إلا من الغياب. الفعل ذاته «سرى» والذي يدل في النص على مفعول الدواء والسم. يمثل الطبيب دوبان مثالا جيدا لكبش الفداء الغريب، وصاحب المصنفات المكتوبة بكل اللغات وهو القادم من بعيد، وهذا الآخر الذي يشفي الملك والذي تكون معرفته قاتلة ولا يحترم المحظور الذي يقدمه. وهكذا يكون الكتاب الذي يعجز الملك عن فك أسراره كتاب حياته التي شارفت على النهاية. لكن ثمة أيضا تمثيل للأدب: كل كتاب هو رأس مقطوع يتحدث وحوار بين قارئ حي ومؤلف ميت أو غائب. معجزة الرأس المقطوع الذي يحتفظ بقدرته على الحديث، والكتاب بعد موعد مع الغياب والحضور والحياة والموت.

الأدب والموت

يستعيد فصل آخر من بحث كيليطو الخيط الناظم لهذا التأمل حول العلاقة بين الأدب والموت، ويذكرني بالإشكالية التي طرحها موريس بلانشو. ففي مدينة إيران المحاطة بالأسوار في قلب الصحراء، يكتشف المسافرون شعبا من الأموات. وقد رغب أحد الملوك الأقوياء في هذه الرحلة الاستكشافية إلى هذه المنطقة في مغرب الأرض بتاثير الحكايات التي تتحدث عن إمكانية العثور على تلكم القماقم المختومة للملك سليمان، التي تحوي مردة تمردوا على حكمه. ونعثر هنا على الجذر ذاته في اللغة العربية حسب كيليطو، الذي يوجد في غروب الشمس والغرابة. يجري اقتياد المسافرين من لدن دليل يمتلك خريطة الطريق بفعل الوراثة ويستطيع فك الرموز على القبور وتدوينات المدينة حين وصولهم إليها. وهو عارف بكتابة الموتى. يظل المارد المحبوس داخل القمقم حيا، لكن ما الذي يحدث حين يطلق سراحه؟ يعلن توبته أمام الملك سليمان قبل انعتاقه. وخلافا للمارد الذي يطلق الصياد سراحه في حكاية أخرى، فإن المارد يجهل كرور الزمن. وفي الوقت الذي كان فيه المسافرون يميزون بين الحاضر والماضي، فإن المارد يعيش في زمن سليمان. وهكذا يتجاور دون اختلاط زمنان أحدهما زمن المارد الذي يعيش في زمن سليمان، ودون أي تأثير على الحاضر، ما يعني أنه يتحدث مثل ميت. ويلزمه كي يعود إلى الحياة أن يخوض في حوار مع الأحياء، وأن تتوضح من ثم الفروق بين الماضي والحاضر.

يتمثل الشكل الآخر لعلاقة المسافرين بكلام الأموات في هذه الحكاية في الكتابة. وحدها الملكة تبدو في قلب القصر حية، إلى درجة حملت الأمير على السلام بحرارة عليها، لكنه لم يلبث أن أحاط علما بكونها ميتة ولا تبدو الملكة حية إلا بواسطة الحيلة. وهي تروي بواسطة لوح للمسافرين حكاية سنوات الجفاف السبع التي حكمت على المدينة بالاندثار. ثمة في هذه الحكاية درس ينبغي للأحياء أن يتأملوه، وثمة أيضا تهديد لكل من تسول له نفسه لمس الملكة. وقد فقد أحد المسافرين صوابه؛ إذ لم يفهم أنه لا يمكن لعلاقة مع الملكة الميتة أن تتحقق إلا من خلال مسافة. وينتهي اللوح الذي يحوي حكاية الملكة بهذه الكلمات: وهكذا متنا جميعا. وإذا كانت هذه «الفضيحة الدلالية» حسب كيليطو تشهد في ما يهم الأموات على حنين إلى الحياة ومحاولة للعيش في ذاكرة من سوف يكتشفون لاحقا آثارهم. ويمكننا أن نؤول ذلك بوصفه خرافة حول الأدب، باعتباره «هبة الأموات» حسب تعبير دانييل سالوناف: أن تكون ساردا معناه أن تلعب دور الميت كي تتيح للأموات فرصة إسماع أصواتهم. يخوض السارد أو الشاعر حوارا لا نهاية له مع الأموات يجعله الفضاء الأدبي ممكنا.

الكتاب الغريق

يقترح الفصل الرابع من هذا البحث تأملا رائعا حول «الكتاب الغريق» من خلال تحليل حكاية حسيب كمال الدين، وحيث تختزل معرفة العالم بأكملها في خمس ورقات أفلتت من غرق المكتبة. أنوه أيضا بالفصل الخامس» ابتسامة السندباد» المثير والمشوق بالفعل والذي يقدم لنا البطل بوصفه رجل النسيان الذي يواجه في غمرة مغامراته خسارات مطردة ومتكررة لهويته، التي لن يتاح له استعادتها إلا من خلال الحكايات التي تعيد إدماجه في الجماعة. وسرعان ما سيجد نفسه بعد أن قطع مع الترحل في مواجهة ضعفه السندباد البري الذي كان حمالا والذي كان يجهر امام باب بيته، بأن لا صلة تجمعه به والذي استضافه السندباد البحري سبعة أيام كي يروي له خلالها مغامراته ويستمد من ثم مشروعية. وفي مقابل ذلك كان الحمال يحصل كل ليلة على مئة قطعة ذهبية. وهي في العمق حكاية الزوج السارد المؤلف والمتلقي القارئ والتوترات الحاصلة بينهما: القارئ المنافق أو الشبيه والأخ.

ينبغي على سبيل الختام الإشارة إلى عنوان هذا البحث، الذي ينبع من صيغة لا نعثر عليها إطلاقا حين قراءتنا لألف ليلة وليلة ففي حكاية «العجوز والجني» يعود العجوز الذي قتل خطأً ابن الجني إلى المكان بعد مرور سنة، وفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه كي ينال العقاب المستحق. وقد التقى هناك عجوزا آخر استمع إلى حكايته وكان جوابه. والله لو كتبت بالإبر على الآماق لصارت عبرة لمن يعتبر. وهي صيغة تتكرر باطراد فقط في ألف ليلة وليلة. ويسعى كيليطو إلى التفكير في الرهان دون إزاحة الحمولة المرعبة: أن تفقأ عينيك بعد سماع حكاية يشكل فعلا لم يأته إلا أوديب. كان الأمر متعلقا ـ وهذا صحيح- بالحكاية التي رواها تريزياس العراف الأعمى.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي