الدموع هي تلكَ اللغة المُهَمشة

2023-05-03

توم لوتز | ترجمة: ملاك أشرف

هُناك نوعان من البكاء: الأول صادق والآخر مُزيف أو البكاء الجسدي الذي يعتمد على آلية وطبيعة الجسد، والبكاء الأخلاقي أي مشاعر العقل والقلب وتفكير كليهما.

في هذا النص وطوال تاريخ البشرية نعد بعض الدموع جيدة وبعضها غير حقيقي كاذب ومُحتقر، هذا التمييز هو أحد الخيوط المهمة والدائمة للتاريخ الثقافي للبكاء، ومن العدل أن نقولَ إن الصراخ الطيب والصراخ المُنحط كانا دائما معنا، وسيظلان إلى الأبد.

يلعب البكاءُ أيضا دورا قويا في القصص، وقد رويت عدة حكايات قديمة عن الآلهة مثل: الإلهة المصرية إيزيس ودموعها على أخيها أوزوريس فتبكي عليه وما دموعها إلا إحياء للإله الميت، ورويت قصص مُماثلة عن آلهة بلاد ما بينَ النهرين مردوخ، تموز وعشتار..

لطالما اعتقد العلماء والدارسون منذُ فترةٍ طويلة بأن جميع هذه الأساطير قد تكون مُرتبطة بطقوسٍ موسمية مُعينة، حيث يُمثل موت الإله الخريف والسقوط بينما تمثل الدموع التجديد والتغيير المُستقبلي القريب، الذي سيأتي مع أمطار الربيع. نرى في الكتاب المُقدس آنذاك آثار البكاء وطقوسه، نحو: « لعل مَن يزرعونَ بالدمُوع أن يَحصدُوا بصيحات الفرح!» وبصياغةٍ أدق في سفر المزامير: « الذينَ يَزرعونَ بالدمُوع يَحصدُونَ بالابْتهاج». وفي كلا الحالتين مَن يَزرعونَ بالدموع سيحصدونَ بفرحٍ. لا يقتصر سفر المزامير على نصوص كهذه، إنما يردد إلى جانب ما سبق: «استَمعْ صَلاتي يَا رَب، وَاصْغ إلى صُراخي، لا تَسْكُتْ عَن دُمُوعي، لأَني أَنا غَريبٌ عنْدَكَ، نَزيلٌ مثلُ جَميع آبائي».

أما في إنجيل لوقا فنقرأُ أو نسمع القول: «طوبى لكم أيها الباكونَ الآنَ، لأَنكُم ستضحَكُون» بمعنى يتحول الحزنُ حتما إلى بهجةٍ ويكون البكاءُ مُحاولة للتأثير في الرب من خلال التذلل، هذه الدموع تحل تدريجيا محل القرابين في الثقافة الدينية مثل: الذبائح وتمزيق الثياب وغيرها.. نثبت هذا التقدم الأنقى بما ورد في سفر يوئيل حينئذٍ: «وَلكن الآنَ، يَقُولُ الرب، ارجعُوا إليّ بكُل قُلُوبكُم، وبالصوم والبُكاء والنوح، ومزقوا قُلوبكم لا ثيابكُم».

كانت الدموع إذن تستعمل بشكلٍ شائعٍ كدلالةٍ على الإيمان الصادق والإخلاص؛ كونها الأكثر أهمية ونزاهة في تاريخ البكاء والمُمارسات الدينية، لا تزال الدموع تُستخدم للتعبير عن أصالة مشاعر المرء في المسيحية المُعاصرة.

الدموع المُقدسة هُنا ليست استعارة مُلتبسة وحسب، بل موقفا عاما إزاء الدموع العاطفية بناء على أنها مُغذية ومُستمرة، البكاء مُمتع لدرجة أنهُ يمكن أن يجعلَ المرء يرتجف بسرورٍ. كما ارتبطت ملذات الدموع بالملذات الرومانسية والظواهر الشاعرية، رُبما الشاعر فيرجيل هو مَن أفردَ موضوع الدموع ودلالة جمالها في كتابه الإنيد، مُشيرا إلى الدموع الشبيهة بزخرفة الديكور، كما كانَ الشاعر أوفيد أول مَن اقترحَ الدموع كشكلٍ من أشكال الإغواء، بوصفها ضرورة إقناعية أو وظيفة نفعية. غالبا ما تقترن بصورةٍ عرضية بالمُعاناة، الحزن والألم لذا تساءل القديس توما الأكويني عما إذا كانت الدموع تخفف من حدة الآلام وشدة الآهات، وخلصَ إلى أنها تفعل ذلكَ لأنها توفر المُتعة (اللذة) أولاً، على أساس أن هُناك شيئا ما يُؤلمنا أكثر إذا أبقيناه محبوسا ومُغلقا في الأعماق، في حين إن سمحنا لهُ بالهروب يقل الحزن الداخلي ونشعر بالتحسن من وخزات الخطيئة التي لا مفر منها.

بدأ القديس أوغسطينوس يتساءل عن كيفية وجود حلاوة في الثمار المقطوفة من محصول الحياة المُرة، سواء في الحداد أو النحيب والتنهدات! ثمة تساؤلٌ آخر لديه عن الدموع ما إذا كانت تستمد حلاوتها من إمكانية أن يلاحظها الله، أم البكاء هو أمرٌ مريرٌ يصبحُ لذة حينما تصيرُ الأشياءُ التي استمتعنا بها بغيضة لاحقا؟ في رسالةٍ للقديس جيروم نجدُ وصفا لدموع الفرح الدينية، يمضي فيها قائلا: «عندما ذرفتُ دُموعا غزيرة وأرهقت عيني جراء النظر نحوَ السماء، شعرتُ أحيانا بنفسي بينَ مضيفين ملائكيين».

يفترض الكاتب سيوران أن الدموع الحقيقية الجوهرية كأنها موسيقى، هي شكلٌ فنيٌ في حد ذاتها وتجربةٌ جمالية أو نوعٌ من الإنتاج الجمالي، لا يختلف عن نيتشه عندما لَمْ يستطع التفريق بينَ الدموع والموسيقى. إن الدموع هدفٌ رئيس للفنانين والشعراء على وجه الخصوص، كانَ لهذه الدموع تأثيرٌ مثيرٌ، لاسيما مع ظهور الرومانتيكية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر بلا شك.

افترضت كذلك فئةٌ كبيرة من الناس أن البكاء هو رمزٌ للكآبة والأنانية المُفرطة في الرومانسية، وغرقوا ببطءٍ في خطئهم عندما كانوا يميلون إلى عده مرضا وعيبا أو طريقة خادعة تبني فخا للحصول دوما على ما يريدون. كتبَ الشاعر ألفريد أوستن في عام 1881 أن الدموع هي زخاتٌ صيفية على الروح، وأدرجت الشاعرة إيلا ويلر ويلكوكس في قصائدَ المُتعة سنة 1892 واحدة معنونة بـ(سيدة الدموع) عن سيدة الدموع الغامضة وإنقاذها للأشخاص ثُم الحفاظ عليهم من تَحطم القلوب. الدموع بالنسبة لرولان بارت هي الكلام والخطاب الطبيعي للجسد المثالي، لكنها بالتأكيد تتفوق على الكلمات.

تبدو للبعض الآخر سلاحا قويا للمُضطهدين المظلومين، أي السلاح المُفضل لأولئكَ الذين يتوقعون المآسي ويشعرون بأنهم معرضونَ للخطر. إن فكرة الدموع هي ذروة الفضيلة وإن كانت جانبا تقليديا، قديمَ الطراز من ثقافتنا العاطفية، يجب أن نوضحَ مسألة عدم علاقتها بمعيار الرجولة ونشرحَ تاريخها كجزءٍ لا يتجزأ من الإنسان لئلا نستهينَ أو نستخفَ بميل المرء إلى الدموع ومُلازمتها لهُ، أو نقلل من لجوئه إليها وتعلقه بها. الشخص الذي لا يبكي أبدا هو ببساطة يختزن المُشكلات النفسية لنفسه.

كاتبة عراقية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي