شعب تحت أضواء المدينة

2023-04-29

دانية ترجمان/ ترجمة ربيعة الخطيب

كل يوم تحت سطح أنوار باريس، يعيش القُصّر غير المصحوبين بذويهم على أرصفة المشاة، يكشف الوصول إلى الأراضي الفرنسية عن الجانب الآخر من الحلم المحترق الذي تجرأوا على تحقيقه، بين رفض المؤسسات والليالي الطوال تحت سماء مظلمة، والخيبة الممزوجة بآمال متضائلة، إنهم هنا، طوال الوقت، يواجهون جهل المارة، لكنهم بالتأكيد تقبّلوا الأمر الواقع ليصبحوا ضوءأً إضافياً تحت السماء.

العالم نيتشه في كتابه Ecce Homo كتب حول التعبير باللغة اللاتينية Amor Fati: «صيغتي لما هو عظيم في الإنسان هو حب القدر، ألا تريد شيئاً أكثر مما هو موجود، لا في ما مضى ولا في ما سيأتي، ولا في عصور الدهر، ينبغي على المرء أن لا يتحمل الضرورة على مضض وأقل من ذلك أن يخفيها – المثالية كلها موقف كاذب حيال الضرورة – بل أن يُحبها».

نقطة البداية بدأت ذات مساء من تموز/يوليو 2015، كنت أراقب من دون صبر الإشارة الحمراء في شمال العاصمة باريس، أمام فوضى تراقص السيارات، أمام حقل رؤيتي ظهرت لي إشارة خاصة، هيئة إنسانية تمنعني من التقدم رغم أن إشارة المرور الخضراء تسمح لي بذلك، اكتشفت وجهه وتوقفت، جسده نحيل، ملابسه كبيرة عليه، نظراته أعطتني صورة عن انهيار واضح لصبي، أدقق النظر في وجهه لأفهم أنه ليس صبيا آخر يقطع الوقت بين السيارات في طرقات المدينة، لا.. إنه يبحث عن جلب الانتباه إليه، انتباه إنساني يرغب في أن يتعرّف عليه، هو وكربه، يترك طريقي وهو يهزّ يديه، يبحث عن ضوء آخر ورائي، تباطأت، أعدتُ رؤية تفاصيل تلك اللحظة التي تشبه النار المشتعلة، على مرآة الجميع، تلك اللحظة الساطعة دفعتني للبحث ولمعرفة المزيد عنه، عنهم، هؤلاء الأطفال الذين يُشاهدون في الطرقات، تدريجياً أفهم من هم، ماذا يفعلون، ماذا ينتظرون، ما هو رجاؤهم.

هم.. القاصرون المعزولون في باريس، سكّان ضعفاء يحاولون البقاء على قيد الحياة على جانب ضيق من الرصيف، وعندما أفكر في عبارة حب القدر، أتمعن بالنظر اليهم، هم في مواجهة باريس، وأدقق أيضاً بالنظر إلى المارّين في الشوارع وهم يُشيحون بنظرهم لمنع أنفسهم من لقاء ما يمكن أن يزعجهم، أتمعن في ما يفرض علينا أن نُشاهده، عندما لا شيء يُوقفهم عند إشارة الضوء الحمراء، لأكثر من عام، أمام هذا الباب الذي أراقبه، في كل مرة، تصبح رؤيتي لما تعنيه كلمة الإنسانية، أكثر ضبابية، في كل يوم عشرات الصبيان يخرجون من إدارات من المفترض أن تحميهم. أستمر في هذا الجزء من الثانية، بين اللحظة، حيث الإدارة المعنية بالتعرّف على القصّر تدفعهم إلى الشارع، واللحظة التي يجدون فيها أنفسهم، وحيدين، ما يذهلني هو الصمت اللامتناهي الذي يغوصون فيه بعد جواب الرفض الذي يتلقونه، حيث كان الأمل كبيراً لديهم، هذا الشرود.. الذي بقي في ذاكرتي وسيبقى لوقت طويل، على ما أعتقد، هذه الصورة الذهنية لهذه التجربة، وأنا أبحث عن عيونهم التي تصرخ من غير أن تقول كلمة، هذه العيون التي تُوجد أمام باب الإدارة والذي يُفتح ويُغلق بشكل مستمر. كل نهار يبدأ أمام باب إدارة التعّرف على القُصّر وينتهي على الرصيف بين اثنين من فوانيس الإضاءة الليلية حين يحّل المساء.

هناك لحظات، جمل، أوضاع، أفعال، تتحرر وأدرك معها عدم قدرتي وعجزي، فهمت سريعاً بأن هذه المساحة المحصورة خالية من كل أمل، من كل ابتسامة، من كل جمال، هذا كل ما يمكن أن تقدمه باريس، كما لو كان من الطبيعي في بعض الأماكن أن يختفي كل شيء، يُمحى كل شيء، أن يتم تجاهل كل شيء، أن يُحرق كل شيء، لم انتظر طويلًا لأفهم لماذا تصبح رؤيتي ضبابية عندما أقترب من هذا المكان، عندما أرى جسداً صغيراً يخرج مشحوناً بالغضب ويصفق الباب بعنف، تم رفضه، هو أيضاً، ولكنه لا يتقبل ذلك الرفض، لا يفهمه، يريد أن يُسمع، يريد أن ننقذه، إذن يقوم بفعل ما لم يفعله شخص آخر أمام هذا الباب، يخلع معطفه، يصرخ، يُهدد، ينتحب، يضرب الباب، ولكن لا جواب، إذن يخلع كنزته، ينظر إليهم من الخارج، لكن هم دائماً لا يرونه، يخلع القميص الداخلي وبصراخه يصبح وجهه أحمر، صدره لا يُشير إلى أنه رجل ولا إلى طفل، لا يفهم لماذا لا يُصدقونه، يقفز إلى علبة القمامة يأخذ زجاجة ويكسرها إلى قطعتين، ويضع قطعة الزجاج التي في يده على جلده، ينظر إليهم، لا يتحرك، ولا يتحرك أي شخص، إذا لم ينظر إليه شخص، سيفعلها، ينظرون إليه من داخل الإدارة، ولكن لا يفعلون شيئاً، يواصل فعلته. اليوم أيضاً، لا أستطيع أن أنسى هذا المشهد، يبقى أمام عيني دائماً، هذه الصورة لا تُمحى، يخرج هؤلاء الصبيان من هذا الباب، مصدومين، تائهين بالكامل، ضائعين، يبقون فترة طويلة في مواجهة هذا الباب، ينهارون على الرصيف المقابل، من غير أن يعرفوا أين يذهبون وماذا يفعلون.

الصبي عثمان صرّح لي.. كيف يستطيعون أن يقولوا لي بأني غير قاصر، كيف يستطيعون المعرفة فقط بالنظر إليّ وبسؤالي ثلاثة أسئلة، بأني لست قاصراً، كيف أفعل؟ هذه الجملة أسمعها في كل اللغات، كل يوم. ذات يوم، صبي آخر، إلفا، اعترف لي: «أعتقدت أن في باريس الأمور ستكون مختلفة، وأنه سيكون بلد حقوق الإنسان. لكن ما نراه.. سأقدّم شكوى، سأطالب بحقوقي! سأستمر!». صبي آخر بالقرب منه، تيرنو، يرمي: «لكن التقدم بالشكوى طريق طويل، أين سنذهب بهذا الوقت، لا يوجد عدل! ينظرون إلينا.. أنت قوي وعاقل إذن أنت لست قاصراً. ما هذا؟ كيف يمكن ذلك؟ فعلنا كل شيء للمجيء إلى هنا. وهنا.. هكذا». ماذا نُجيب؟ ماذا نقول لهؤلاء الصبيان الذين يستعدون للحياة على طرف الرصيف؟ ماذا أشرح لهم؟ ماذا نستطيع أن نفعل ليأسهم؟ تضطرب رؤيتي عندما أقرأ في وجه صبي تعبير الخوف. يخرج وابتسامة على شفتيه ويبقى أمام الباب. ينظر إلى الواجهة الزجاجية حيث نرى الموظفين الذين يعملون على قبول أو رفض الصبيان، لأنّ هذا واضح، أو لأن هذا غير واضح له.. هذا غير واضح، إذن يخرج. يبقى وقت طويل وهو ينظر، يُخرج من جيبه محفظة النظافة التي أُعطيت له وهو يغادر المكان. وكأن هذا كل ما يحتاج إليه هؤلاء الصبيان، بعد الرفض، يجدون أنفسهم بين فرشاة الاسنان، مشط الشعر، سائل منظف وشفرة الحلاقة، يتمعن الصبي بشفرة الحلاقة، يرمي الأشياء الأخرى على الأرض، يُخرج الشفرة، يبتسم ويتحول الخوف الذي أقرأه في وجهه إلى شكل انتقام، يرفع يده ويدخلها بين قضبان الباب، بين أصابعه شفرة الحلاقة، يُشهرها في وجوههم، هم المسؤولون عن وضعه في الشارع، يصرخ: «أنتظركم مع هذه! انظروا! مع هذه!».

كثير من هؤلاء الصبيان، بخروجهم من هذا الباب، يملكون حالة نفسية مضطربة، والتي تبتعد عن كل ما هو عقلاني، بعضهم يدخل في عنف أعمى، وآخرون يغوصون في الصمت، وآخرون أيضاً يتغيرون بين دخولهم الإدارة وخروجهم

منها. صبي خرج واتجه نحوي «نعم لقد رفضوني.. هم على حق، الجميع يرفضني». باح لي بهذه العبارات وهو يمشي على الطريق بشكل خطر، تمر العربات بالقرب منه بسرعة فائقة. «لم يبق لي إلا أن أفعل أي شيء، إذا فعلت شيئاً سيكونون هم السبب.. لا أملك شيئاً، لا شيء.. كيف لي أن أعوّض كل هذا الزمن الذي فقدته؟ سوف أسرق، لم يبق لي إلا هذا، وهذا بسببهم». يبتعد في الطريق وينظر لي نظرة أخيرة ويقول: يجب أن لا تقلقي عليّ.

أمام هذا الباب، أستمر في مراقبة هؤلاء الصبيان التائهين.. آخذ الوقت لفهم وتحليل مكونات هذه الفئة من السكان، لكن ما يصدم حقاً، هو أنني أتعلم ربما الكثير، حول الشعب الباريسي، هو الذي اعتقدت بأني أعرفه جيداً، هو الذي لا يبذل أبداً أي جهد، ولأني جزء منه، ملاحظاتي تأخذني لأُدونّ بعض الأشياء حول هذا الشعب. عندما يمشي الباريسيون أمام البؤس، لا يتوقفون. وعندما يمرون يُسرعون في الخطوات. عندما ينظر الباريسيون من غير أن يروا هؤلاء الصبيان الغاضبين، الجاهزين لوضع حدّ لحياتهم. وأيضاً عندما يخرج الباريسي بشكل خاص مستيقظا من كابوس، ويأتي من مكان بعيد. ولكن لسبب حتى الآن لا أعرفه، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، أرى كل شيء بوضوح، ماذا يحدث، على الرصيف.

أبقى أمام هذا الباب الحديدي الذي لا يتوقف عن الفتح والإغلاق، والذي يسمح بمرور عشرات الصبيان الذين يحملون طلبات الحماية، أقترب منهم، في أجواء المدينة هذه، الذي يحمل الكثير من الصمت، في مساحة محدودة من باريس. إنه يقترب مني.. أشعر بأن شيئاً ما سيتغير، شيء ما سيُحطم بشكل نهائي نظرتي لباريس منذ الطفولة. يقف في مواجهتي.. أستمر بمناقشة أحد الصبيان على الرصيف من غير أن أعير انتباها لشيء آخر. وأنا أعتقد بأنه ليس لأجلي، لا يمكن أن يكون أنا مقصده. هذه الشخصية التي تقف بمواجهتي، لا نراها إلا في الأفلام.

يقول لي: «يجب أن تخجلي من نفسك»، أتوقف وأنظر له بتمعّن لأتأكد بأنّ هذه الكلمات موجهة لي. يستمر في طريقه بضعة أمتار، يلتفت ويقذف الكلام «شخصيات فاشية»، أنظر إليه وهو يبتعد ومن ظهره وهيئته أفهم من هو، وأفهمه أكثر عن قرب، هؤلاء من عرفناهم في طريق تاريخ الإنسانية. هؤلاء الذين يزرعون الخوف، هؤلاء الذين لا يريدون من لا يشبهّهم. الرأس محلوق على الصفر، يلبسون ملابس سوداء، يملكون أحذية جاهزة لتحطيم الوجوه على الأرض. يتنزهون مع كلاب مدرّبة على القتل، لأنها بحاجة إلى قناع على فمها في وسط المدينة.

نعم، لا شكّ في أنه هو الذي واجهني، أنظر إليه وهو يبتعد، لم أعد أرى شيئاً. لم أعد أرى مدينتي باريس، ولا شعبها. ينتابني شعور واع وهو يبتعد بأنه موجود وبشكل نهائي، إنهم هنا في مدينتي باريس. أبتعد للحظات وأنظر إلى هؤلاء الصبيان الذين لم يفهموا ما حدث. لا أعرف ماذا أفعل، ولا حتى ماذا أقول.

أستعيد.. وببطء مشاهدة ما حدث. هؤلاء الصبية لا يعلمون أن الزمن الذي يسعون فيه للاستقرار، من غير شك، سيصبح مضطرباً أكثر وأكثر. هناك لحظات في النهار، حيث كل شيء مرئي، كل شيء واضح للرؤية، وهناك لحظات في الليل، نكون في مواجهة هيئات خيالية، في الليل نغوص في عالم آخر، تحت سطح الأضواء، الكون كله معلّق لأي شخص يقترب من هذا الشعب الذي يحاول التمسك بالحياة على الأرصفة الملتمعة.

من هذه الليالي الطويلة، الذي يبقى حيّاً، هو هذا الرعب في عيونهم، الذي يُعطّل حركة أجسادهم التي تبحث عن الاطمئنان. لا يوجد هدف، لا طريق محدد، لا توجد وجهة، لا عنوان، لا مكان حيث يمكن لهذا الكابوس أن ينتهي. ما يتبقى، هذه الأصوات الغريبة في الليل، هي أصوات الاطمئنان للذي يشعر بالوحدة الكامنة فيه، لأن ضجة الأصوات في الحقيقة تأتي لملء فراغ هذا العالم الغائب، هذا الصمت الثقيل يترك مكانا كافيا لهذه الأرواح، لأن ترتفع فوق سطح الأضواء للحظة قصيرة. مواجهة ما في هذا الليل، هم تائهون في الطرقات الفارغة، يتقدمون ثم يتوقفون ثم يستمرون، يقومون بحركات في الظلام، أمام الإشارات الحمر في أغلب الوقت، لجلب الانتباه لوجودهم. أحدهم أسرّ لي مع ابتسامة عريضة التي بدأت بالاختفاء تدريجياً: «شاهدت الكثير.. الأصعب في كل هذا، هو البرد، لأننا لم نتعود على ذلك، في بلادنا البرد ليس شديداً، لكن هنا البرد.. متعب حقاً، عندما أستطيع الحصول على أوتيل في المساء، عندها سأحتفل! جئتُ إلى باريس، أردتُ الذهاب إلى المدرسة وأن تكون لي حياة طبيعية، ولا أعلم يمكن أن أُصبح يوماً ما طبيباً، لأنّ هذا كان حلمي، أيضاً إنقاذ حياة الناس. لأني أنا أيضاً، تمّ إنقاذنا في البحر، في المغرب من قِبل الصليب الأحمر. هؤلاء الذين خاطروا أيضاً بحياتهم لأجلنا. الزورق الذي كنا فيه كان مثقوباً والماء يدخل فيه ثم بدأ يغرق، إذن أنا لن أنسى هذا أبداً» مالك، خمسة عشر عاماً.

في مساء آخر، ألتقي بصبي ضعيف بشكل خاص، جسده الصغير لا يحمله، يضغط على قدميه، الرأس بين اليدين، عاجز في ظلام الليل الذي يهبط عليه، يقترب مني ويبقي إلى جانبي فترة طويلة، عندما أبتعد يقترب مني، يُثبت النظر إليّ عندما أقترب يبوح لي: «لا أستطيع.. لا أستطيع النوم في الشارع هكذا، من فضلك، وحدي، هنا، هكذا.. والديّ كانوا قد قُتلا في البلد.. تركت أخواتي الصغيرات.. أعطيتهم الوعد.. هنا معي. ولأجل ذلك جئتُ إلى باريس.. لكن هنا، البرد» إبراهيم، أربعة عشر عاماً.

من تأويهم هذه المدينة هم أيضاً من يجتاحون إقليمها مرئياً، عندما، بالصدفة، نأخذ الوقت لنتأملهم، نقترب منهم، ونسمعهم، لأنه عندما نرحل للبحث عن معنى من خلال نظراتهم الثابتة تحت أضواء المدينة، فوراً، يستقر الإحساس بالعجز، هذه القوة التي تشلّنا. تمنعنا من الفعل، من الاعتقاد، من التفكير، من التكلم، من الاستمرار. لأنه في النهاية، لا شيء له معنى، لما يمكن أن نراقبه، ما يمكننا جمعه كشهادة، كلقطة، كحلقة وصل إلى الواقع، يتم الجمع بين كل شيء ونقيضه، الظلم، إلى الاختفاء، إلى ما هو غير طبيعي، لليأس المحيط الذي يسود في هذه المدينة الأكثر حياةً في العالم، يُضاف إلى ذلك الشعور بالوحدة العميقة التي تشق ضميرنا الحي، لذلك نقوم بتفكيك الأصوات التي تتكاثف مع ضغط الوقت. نتوقف، حيث كل شيء يفرض علينا الاستمرار، ونلاحظ، على طول، حتى تصطف علامات التناقض. نُسجل بأدق التفاصيل وابل الأحياء الموتى تحت أعمدة الإنارة، عيون تستجدي المساعدة، وتستدعي السماء، معّلقة في الوقت الحالي، متسائلة هل ستتحقق أحلامهم، وهذا الصمت الذي يطغى، الذي يفرض، الذي يُنير هذه الصورة البانورامية لتدهور إنسانيتنا، لأن أضواء المدينة في النهاية، هم من يشعلونها.

تمت ترجمة هذه المقالة من صحيفة Le comptoir الفرنسية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي