تراجيديا البحث عن الذات في رواية «الفضلاء»

2023-03-12

 عبدالحفيظ بن جلولي

تعتبر قراءة رواية من أهم الآليات لفهم العالم عبر الخيال الذاتي للروائي، لأن الحكاية التي تتضمنها بمجرد بدايتها تتحول إلى مشترك بين الروائي والقارئ وتشظياتها الممكنة والمستحيلة في التجربة الإنسانية. هذا الممكن والمستحيل هو الذي تفتتح به رواية «الفضلاء» les vertueux للروائي العالمي ياسمينة خضرا: «أشياء لا تصدق تحل بك، تحول مسار وجوديتك وتَقْلِبه رأسا على عقب».

لا يمكن للقراءة العابرة أن تصل إلى عمق هذا المعنى في بداية الرواية، لأنه يتعلق بمصير ومسار الشخصية الرئيسة «ياسين شراقة» حيث تتحدد به وجوديته المتقلبة عبر الزمن والمكان، لتصل إلى ما يمكن أن يخيب أفق انتظار القارئ، باعتبار جملة النهاية: «نعم، لقد سامحت كل شيء». ما بين الاضطراب والمسامحة، تدور أحداث الرواية معلنة عن «الفضلائية» التي تنبع من ضيق المسار الوجودي.

في تجربة الكتابة لدى ياسمينة خضرا، يبدو أنه تحول في مرحلة من مراحل الإبداع من الكتابة الاستحضارية حين كان يعين موضوعا ما ثم يشتغل عليه، لكن بعد «ما يدين به النهار لليل» و»الملائكة تموت من جراحنا» دخل مرحلة «الكتابة الصراعية» وهي ما تفسر الاشتغال داخل الإطار التاريخي الوطني المتضمن فترة الاحتلال وتعيين المكان، حيث وهران ونواحيها، سيدي بلعباس، المالح هي فضاءات الحدث، هذا التعيين يحيل القارئ إلى ذات الروائي ومفاصلته في سيرته الذاتية، بدلالة القرينة السردية المكانية «وهران» وروح العسكري التي تنضح جوهريا بالوطنية والتعالق مع التاريخ الوطني.

السيزيفية وعبثية تراجيديا الذات:

تكشف الرواية عن علاقة الأحداث بأسطورة سيزيف، والعبث الذي لف حياة «ياسين» حيث بداية وجد نفسه في حربٍ نائبا عن ابن القايد إبراهيم، ذلك الخائن للوطن الذي أجبره على فعل ذلك، ليفقد هويته وأرضه وعائلته، ثم تستغله «لالا حليمة» في نزاع لا علاقة له به، لتصفي بعض حساباتها مع عائلتها، فيجد نفسه متابعا من قبل الشرطة، فيتيه في الأرض هاربا، ثم بعدها يقع بين يدي «زُرْقْ» الذي يشك فيه ولا يمنحه أي اعتبار، بل يساهم في التضييق عليه، ثم يجد نفسه في السجن لمدة اثنتي عشرة سنة، يخرج بعدها ليجد مساره المسالم في الحياة والمتسامح مع كل شيء. يقول ياسين» إذا خسرت كل حروبي، فإن لهزائمي استحقاق، إنها الدليل على أنني قاتلت» يرى كامو أن هذا الشقاء ليس عبثا، بل إنه بحث عن المعنى، ولا يرى في أسطورة سيزيف «مأساة الإنسان في عبثية الحياة، بقدر ما تصور تحديه وكفاحه المستمر» وهو ما تستمر عليه الرواية، وحجمها يطرح أيضا هذا القلق في سؤال لماذا هذا الحجم، يمكن أن نفسر ذلك ضمن عبثية الكاتب الذي يريد أن يقحم القارئ ضمن القلق الوجودي الذي تعيشه شخصية ياسين، فقد بَحَثْتُ عن شخصية الشاعر «كرزاز» حين اختفى دون مبرر في مسار الحدث، ثم ظهر في آخر فصل «الضابط أحمر» هذا من الناحية الفنية/التراجيدية، لكن من الناحية الإبداعية/التقنية، كان من الممكن أن تقف الرواية عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتكون الفصول الأخرى مضامين لروايات مستقلة.

قد نجد التبرير للروائي في امتثاله لتداعيات السرد، ليصل بالقارئ إلى «معنى المعنى» في الوجود، انطلاقا من أن ياسين رغم ما مرّ به من أهوال وعذابات وامتحانات صعبة، إلا أنه لم يحمل ضغينة لأحد ووصل إلى مرحلة السلام الداخلي الذي أمهله أن يكون متسامحا، وحجم الرواية يكشف من خلاله الروائي والسارد على هذه الحقيقة التي تكسب القارئ صبرا يصل به في النهاية إلى مراسيم جماليات السرد والحكي من حيث كونهما علاجا، بحيث يرى جوزيف ستالين أن «الكتاب هم مهندسو الروح».

الفضلائية وتداولية الخطر في المسار الحدثي:

إن التجربة التي اكتسبتها شخصية ياسين من خلال القساوة الوجودية، تمنحها المعنى في «الفضلائية» وما يركز هذا المعنى ـ في رأيي ـ أن الرواية بدأت بفصل الحرب «لحم السنادل» إذ ينكشف جوهر الإنسان في تحمل ما يكره، لأنه بطبيعته يحب الحياة، وفي الحرب تتجلى كل مظاهر المساعدة والتضحية ومواجهة الخطر/الموت والمحبة أيضا، وكانت محبة ياسين لعائلته التي كان يظن حسب زعم القايد ابراهيم أنها سوف تتمتع بالأراضي وتنعم بالراحة بمجرد قبوله لمهمة النيابة عن ابنه في الحرب. إن بداية المسار الحدثي لياسين بالحرب يكثف معنى الفضيلة في شخصيته، ومن خطر الحرب تتوالد كل الأخطار المتتالية التي واجهها بكل قوة وشجاعة وإنسانية. تحسم الرواية في معنى «الفضلائية» التي تعنيها من خلال الصراع في المفاهيم ومؤداها في وعي الشخوص التي تفجر بؤرة الحدث الروائي، فالقايد إبراهيم: «لم تَجْرِ على فمه سوى كلمة شرف» لكن هذا الشرف هو ما يتحصله من الجندية في صفوف المحتل دفاعا عن رايته، وهو ما يجعله يلتقي في مسار وجوديته بياسين الذي يرغمه على الذهاب بدلا من ابنه إلى جبهة الحرب العالمية الأولى، دفاعا عن شرف فرنسا، ورفضه يعني تشريد عائلته وقتله بالضرورة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى قبول ياسين بالمهمة، وهو ما يكسبه «الفضلائية» المحسومة ابتداء والتي سوف يتحصل عليها من خلال التلاعب بشخصيته ومصيره من خلال شخوص لا تكشف عن نواياها سوى في مستويات حاسمة تتجلى فيها الخفة الوجودية، كمسار شخصيتي «لا لا حليمة» و«القايد إبراهيم».

فقدان الهوية ومأساة «ياسين»:

تمثل الشخصية الرئيسة «ياسين شراقة» عنصر التراجيديا الذي لا يكف عن مواجهة الألم الوجودي وحتمية المصير إلى العذاب، إلى كل ما هو قسوة وشدة حياتية، لكنه يمثل أيضا فقدان الهوية باعتبارات المقابلة الروائية بين فقد الوطن وفقد ياسين لهويته، فالرواية تتناول المجال التاريخي الاستعماري للجزائر، ولذلك هي رواية حرب واستيلاء على وطن، وبالتالي تصبح الهوية فضاء للتلاعب تماما كما تلاعبت الأحداث المتتالية بهوية ياسين. فقد ياسين هويته الشخصية، بتناوب الأسماء على شخصيته، فمن ياسين شراقة إلى حمزة بوسعيد إلى هواري، كل هذه الأسماء سببت له عدم استقرار وجودي، كما أن فقدان الهوية الإسمية يعني اضطراب العلاقة مع العالم، أي عدم التوافق مع تجليات الأشياء الثابتة للشعور بعدم التوازن مع الأنا، تلك التي لا تستقر على هوية، تماما كما فقدان الوطن لعلاقته بأولئك الذين نبتوا من تربته. عنما يعود «ياسين» من الحرب، كان منتظِرا الحصول على هويته تلك التي يسترجع بها اسمه ومستوى اجتماعيا لائقا، لكن الذي حصل هو فقدان الهوية الأصلية التي ضاعت بانمحائها مع الأوراق، والهوية البديلة تلك التي عادت إلى صاحبها، وهو ما يجعل الرواية على تماس مع حدود الكافكاوية.

هناك فقدان للهوية المكانية، فالقايد إبراهيم طرد عائلة ياسين من القرية بعد أن رحل إلى الحرب، ما أدى إلى ضياعها في الأرجاء، ففقد بذلك ياسين المكان البدئي والهوياتي وتشظى في أمكنة متعددة من وهران إلى مشرية إلى القنادسة، ثم عودة إلى سيدي بلعباس، هذا التشرد الشخصي أدى إلى اهتزاز في معنى المكان المتعدد الذي لا يستقر فيه الشخص المعني إلا ليبحث عن آخر، لأن الهوية مرتبطة بمكان معين تبني فيه استقرارها ولو في الحلم. الفقد الثالث هو فقدان الهوية الوطنية التي استولت عليها الآلة الاستعمارية المهيمنة، وفقدان الهوية المكانية هو تعبير عن الفقدان الشامل للرقعة الوطنية، وتعدد الأمكنة في الرواية إنما هو تعبير عن عدم الثبات الهوياتي في المكان بعدما طاله المساس بجغرافيته من قبل الهجوم الاستعماري المهيمن.

المكان وصراعية المنحى الحدثي:

يبدو أن سؤال المكان لدى ياسمينة خضرا من القضايا الوجودية المهمة التي أتاحت للمكان البدء، أو المكان الهوية، أن ينبثق من صراعية نفسية عميقة في تراجيديا البحث عن الذات، والإهداء إلى الأم «التي لا تقرأ ولا تكتب، والتي ألهمتني هذا الكتاب» إحالة موضوعية للتماثل بين الأم والمكان البدء، فالأم لم تلهم العمل فقط، بل حوّلت بوصلة الذات والكتابة نحو المكان/الأم. تعد البداية الصراعية المتمثلة في عنفية الحرب معادلا موضوعيا للصراع النفسي للشخصية الروائية وللروائي العائد من أمكنة متعددة بعد صراعية جمالية داخل أقبية الكتابة الروائية والراسية عند مرافئ القنادسة، يقول ياسين في تناجيه النفسي: «نداء الصحراء حل محل همهمة الأمواج» والمعنى يتداول بين الموج الذي اعتاده ياسين/ياسمينة في ما يحيط وهران في كل من روايتي «ما يدين به النهار لليل» و»الملائكة تموت من جراحنا» والصحراء التي انبثق نداؤها في حنين ياسين إلى فضاءاتها بعد أن أحاطه القلق الوجودي، وأغلق عليه داخل دوائر الصراع في مسارات السرد المتعددة.

إن الوصول إلى «القنادسة» في نهاية المطاف الحكائي/الصراعي يعني بلوغ الذات مستوى من اليقين الوجداني في أهمية توثيق المكان البدء، و«القنادسة» مسقط رأس ياسمينة خضرا، لم تذكر سوى في روايته الأخيرة «الفضلاء» ما يعني الاستقرار أخيرا إلى تربة البدايات، بل لعل الإشارة سرديا إلى «مريم» زوجته وجمع حقائبها طواعية دون طلب ياسين: «.. أدْرَكَتْ مريم ذلك، دون أن أقترح، جمعت حقائبنا والتحقنا بالقنادسة» يعكس العفوية السردية في اختيار مستوى تسريد القنادسة وبالتالي تكريس منطقها في منظومة السردية التاريخية المنجزة روائيا. يمكن أن نعتبر رواية «الفضلاء» نص الصراع من أجل إدراك السلام الداخلي المتوائم مع الوصل إلى مرافئ المكان/الذات.

كاتب جزائري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي