باشلار في كتابه «الماء والأحلام»: عِلمٌ بِلغة الشِعر

2023-03-11

جمال العتّابي

يعدّ كتاب «جماليات المكان» إحدى المرجعيات المهمة للدراسات والبحوث الجادّة في فلسفة المكان وجمالياته، لمؤلفه غوستان باشلار (1884 – 1962) أحد الفلاسفة الفرنسيين، صدر له أكثر من 14 مؤلفاً، تُرجم البعض منها الى العربية، كما اهتم باشلار بدراسة العناصر الأربعة، الماء، الهواء، النار والتراب، وعلاقة هذه العناصر بعلم النفس، كما ابتكر نظريته الخاصة التي تتعلق بالمخيلة والمعرفة، إلى جانب اهتماماته المتعددة والمتنوعة في أغلب حقول العلم والمعرفة.

ينطلق باشلار في جماليات المكان من نقطة أساسية هي (البيت القديم) بيت الطفولة، هو مكان الألفة، مركز تكييف الخيال، وعندما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيد ذكراه، إن هذا يقودنا إلى عرض المنهج الذي عناه باشلار في كتابه «الماء والأحلام… دراسة عن الخيال والمادة» الصادر عن المنظمة العربية للترجمة، قدّم له الشاعر أدونيس، وترجمه علي نجيب إبراهيم، وصدر عام 2007 في بيروت، توزّع الكتاب إلى عدّة فصول من بينها (الشروط الموضوعية للنرجسية، المياه العاشقة، الماء الأمومي، الماء الأنثوي، الطهر والتطهر أخلاق الماء، تفوّق الماء العذب، الماء العنيف، كلام الماء).

يصف أدونيس هذا الكتاب، بأنه عِلم بلغة الشعر، وشعر بلغة العلم، تقرؤه فتشعر كأنك تقرأ قصيدة يتشابك فيها الحلم والواقع، المخيلة والمادة، تشعر كأن العناصر تتماهى، أو يحلّ بعضُها محل الآخر، تقبض على الخطاب معجوناً في وردة تتفتح بين يديك، أو ترى الكلمات كيف تنسكب بين يديك نبعاً، أو شجراً. هذا الأفق الإبداعي الذي يفتحه باشلار من طراز خاص، بفكرة مركزية تشير إلى أنه متجه إلى موضوع، يرى فيه أنه في دراسة الخيال لا يوجد موضوع دون ذات، الذي يتحدد من خلال وعينا به، ومعايشتنا له.

الماء والنرجسية

لماذا نتمارى، هل نعي بذلك جمالنا وقوتنا عندما نقف أمام المرآة؟ هذه الأسئلة تكفي لأن تظهر ما في النرجسية من مركّب، لا بد قبل ذلك من أن نعي العلاقة السايكولوجية بين المرآة والماء، المرآة الصورة الطبيعية على حقيقتها، المرآة أداة حلم، وعالم متخفٍ يغيب عن (نرسيس)* حين يقف أمام المرآة، إذ لا يجد القدرة على إدراكه، فينفصل عنه، لكنه لن يستطيع تجاوزه، منبع الماء بالنسبة إليه هو عبارة عن طريق منفتح، والمرآة التي يمثلها الينبوع هي وحدها مدعاة لتخيلات مفتوحة، الانعكاس الذي يتميز بالغموض والشحوب، يثير فينا صوراً لا تثيرها المرآة، شَعَرَ نرسيس أمام الماء، بأن جماله يمتد ويستمر، خلاف المرآة التي لا تعطيه إلا صورة جامدة، الماء يعطيه ما يريد وأكثر. من هنا يمكننا إدراك أحد عناصر الحلم الطبيعي، وهو الاندماج العميق فيها، فالشاعر الذي يبدأ بالمرآة عليه أن ينتهي إلى ماء النبع إذا أراد أن يعطي كل ما في تجربته من عمق.

النرجسية ليست دائماً حالة مرضية لشخص يعشق ذاته، بل قد تلعب دوراً إيجابياً في العمل الفني، تأملُ (نرسيس) في مياه النهر يقوده حتماً إلى نوع من الأمل، وهو في الحقيقة نزوع نحو الكمال، إنه الصراع بين الذات وقيم البيئة من حولنا، بين (الذات) والـ(نحن) وهي في الوقت ذاته حاجة ملحّة إلى عطف. إن دراستنا للتخيل ستقودنا، ولا شك، يقول باشلار: إلى اكتشاف حقيقة مهمة، هي أن العين الحقيقية للأرض هي الماء، الماء في أعيننا هو الذي يحلم، أليست عيوننا عبارة عن بركة ماء لا تنضب من النور السائل الذي وضعه الخالق في أعماق أنفسنا؟ فالماء في الطبيعة هو الذي يحلم.

الماء والجنس

ينتقل باشلار لتوضيح علاقة الماء بالجنس، فيقول: إن الوظيفة الجنسية للنهر، هي ان يستدعي العري الأنثوي، المرأة التي تستدعيها المياه ستكون امرأة بيضاء جميلة، وبالنتيجة ستكون عارية، فالماء يستدعي العري الطبيعي، هذا العري الذي يحتفظ بنوع من البراءة والطهر، وفي عالم التخيل، أن الكائنات العارية حقاً تخرج من مياه البحار والمحيطات، الأوزة في تشبيهات الشعراء، هي بديل المرأة العارية، العري المباح، والبياض الطاهر، عري يظهر علانية.

الماء والموت

المياه الساكنة تستدعي الأموات، لأن المياه الميتة هي مياه نائمة، حسب وصف باشلار، الماء الذي يخرج جذلاً من النبع ما يلبث أن يخيم عليه الصمت، ويتّشح بالظلال والسواد، دأب البشر على دفن موتاهم بطرق متعددة، مختلفة، وهناك من يترك الميت لمياه النهر تسير به إلى حيث شاءت، وفي أساطير الشعوب، كان الأطفال المسحورون المولودون حديثاً يُحملون إلى البحر أو النهر، يرمى بهم إلى الماء ليبتلعهم، فكان ميلاد طفل مسحور لا ينتمي إلى الخصب الطبيعي للأرض، يعاد حالاً إلى عنصره، إلى موطن الموت، الذي هو البحر أو النهر، فالماء وحده الذي يمكن له أن ينقذ الأرض، والطفل الذي تلفظه الأمواج إلى الشاطئ، يعود حياً يتحول إلى كائن خارق، سيكون بمقدوره إنقاذ البشر. إذا كان الماء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموت والانتحار، فلا عجب أن يكون مصدراً للحزن، بل السوداوي فيه، وعندما يحزن القلب، لا تكفي مياه العالم لتتحول إلى منبع للدموع. وكان الوداع على شاطئ البحر أشد ما يكون إيلاماً وقسوة.

الماء والليل

الليل ينفذ إلى الماء، إلى أعماق البحار، كما ينغمس في المستنقع، الليل في حافة المياه، على الضفاف، يثير نوعاً خاصاً من الخوف الرطب الذي ينفذ إلى أعماق الحالم، ويبعث فيه القشعريرة، الليل وحده يبعث خوفاً أقل مادية، وإذا كان الخوف ينبعث بالقرب من الضفاف، ذلك يعني أن له أفقاً يتميز به، يختلف فيه عن خوف المغارة، أو الغابة، أو الصحراء الموحشة، بأنه أقل كثافة، وبالتالي أكثر انسيابية، فالظلال فوق الماء، هي من بعض الوجوه الأكثر تحولاً من الظلال على الأرض، وهذا سيقودنا إلى حالة خاصة من قانون التخيل، وهي صيرورته.

الماء الأنثوي

إذا كان الماء مادة للموت، فهو المادة الحقيقية لموت أنثوي، في أول حوار لهاملت مع أوفيليا**، وكأنه يستطلع الغيب: (تلك هي أوفيلي الجميلة، أيتها الآلهة تذكري جميع خطاياي في صلواتك). استحوذت أسطورة أوفيليا على اهتمام باشلار، فخصص لها باشلار فصلاً كاملاً في كتابه هذا، إذ يذكر فيه أن الماء موطن الحوريات، وهو موطن الحوريات الميتة أيضاً، إنه المادة الحقيقية للموت الأنثوي الصرف، على أوفيليا أن تموت في النهر بهدوء دون ضجيج في سبيل خطايا الآخرين، يجب أن لا تندب حظها وتغرق عينيها بالدموع، إنها رمز الانتحار الأنثوي، لقد خلقت لتموت في الماء، إن أوفيليا، كما يقول الشاعر الفرنسي مالارميه، لم تغرق أبداً، إنها عادت من جديد في الأخيلة، ولدى الشعراء، تطفو فوق الماء، بأزاهيرها وشعرها الذي بعثرته الأمواج.

هكذا تبدو صورة الشَعَر المنسدل فوق الماء، وحدها رمز لسيكولوجيا الماء.

على ضفاف تلك الأنهار ولد باشلار، على مقربة من أصوات المياه، فعرف أسرارها، وقادنا إلى رحلة تأمل ساحرة، يغوص فيها عند بدايات الشطآن الصافية اللمعان، إذ تبدأ الصور سريعاً كالأحلام، وتنتهي في الأعماق المظلمة، حيث الأساطير والأوهام والخيالات، هذا النمط من كتابات باشلار يؤكد مزايا النوع الذي تنتمي اليه الكتابة وقوانينها، فهو نص كتبه فيلسوف يتحول إلى شاعر.

——————-

* نرسيس، تنسب لاسمه (النرجسية) ورد في الأساطير الإغريقية، أن نرسيس أو نرجس كان صياداً شديد الوسامة من نسل الآلهة، مغروراً مفتونا بجماله، متكبّراً، قررت الآلهة أن تعاقبه، فقادته إلى بحيرة كي يرى انعكاس صورته على صفحة الماء، فوقع على الفور في حبّ نفسه، والإعجاب بصورته إلى حد عجزه عن ترك البحيرة، بقي يحدّق فيها إلى أن مات.

** أوفيليا إحدى شخصيات شكسبير في مسرحيته (هاملت) كانت فتاة حالمة محبّة لهاملت بعمق، تحملت قسوته وجفاءه، أخيراً لم يتردد في قتل أبيها، ظناً منه أنه هو الذي قتل الملك، أُصيبت أوفيليا بالجنون، ظلت تحمل الزهور وتنشد الأغاني الحزينة، كان مصيرها الغرق في بحيرة تجتمع حول حافاتها الأزهار، وكأنها وجدت السلام أخيراً.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي