المأزق الاجتماعي وأفق الانفراج في «معركة الإسلام والرأسمالية»

2022-10-03

عبدالحفيظ بن جلولي

قراءة الكتاب ليست فقط الاستثمار في المعنى، هي أيضا رؤية بصرية تُسْكِّن ملمح الحروف ركنا ركينا في الذات، فترى ما وراءها وتقرأ ما ليس منظورا في سطورها، تلك هي قصة القراءة في كتاب «معركة الإسلام والرأسمالية» لسيد قطب، وبداية المعركة تحمل مضموني الصراع و»التدافع» بالمعنى القرآني، حيث كتبت فصول هذا الكتاب قبل ثورة 1952 ونشر عام 1953، فقد كانت الحياة في مصر آنذاك تتحكم في مفاصلها الرأسمالية المتوحشة والإقطاع المفترس، ولعل رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، التي صدرت عام 1954، تكشف شيئا من ملامح تلك المرحلة بكل تغول رأس المال واستعباد وقهر القطاع الواسع من الشعب، ولعل المشهد المؤلم في فيلم «الأرض» 1970، المقتبس عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، إخراج يوسف شاهين، الذي يظهر فيه محمود المليجي مدافعا عن الأرض ويجره فارس من عسكر القصر ويداه متشبثتان بالتراب والدم يجري منهما مختلطا بتراب الأرض وعشبها، يكفي هذا المنظر لتصوير الوضع المزري والبؤس الاجتماعي الذي ساد مصر في تلك المرحلة من تحكم الإقطاع في مفاصل الدولة المصرية، حيث يقول الناقد السينمائي حسن الحداد عن هذا الفيلم: «إنه فيلم يحمل رؤية فنية وفكرية واضحة، ويتحدث عن الفلاح والأرض وضرورة الانتماء إليها.. وبالتـالي فهـو فيلم يدعـو إلى الثـورة والـدفـاع عن المبادئ الإنسانية السامية».

يربط سمير أمين في كتيبه «علاقة الفكر الرأسمالي بالفكر الأيديولوجي العربي» بين «النظرة السلفية الإسلامية للاقتصاد السياسي» والمنزع الرأسمالي، وذلك بمناسبة نقده لكتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» لسيد قطب، الصادر عام 1949، إلا إنه يرى حتى الماركسية، «كأيديولوجيا للنضال ضد النظام الرأسمالي، نمت، وأحيانا نمت في اتجاه سلفي» والشاهد هنا، هو سؤال اهتمام سيد قطب بالرأسمالية، وإهماله سؤال الشيوعية؟

ربما تكون بقايا الليبرالية التي تفتّح وعيه في أتونها السبب الرئيس في تركيزه على نقد المنزع الرأسمالي المتغول في فترة الملكية، ما يعني نزوعه نحو الحرية والمِلْكِية بما لا يؤدي إلى الوقوع في الإقطاع.

إن متعة القراءة في الكتاب، أي كتاب تكمن في تقاطعاته مع الواقع، وهو ذات ما نعيره اهتماما حينما نرى في الروايات أو القصص أو الأفلام، وكأن شخوصها تحكي ذواتنا وواقعنا وهمومنا، ذلك هو ما يسترعي القراءة في كتاب «معركة الإسلام والرأسمالية».

يتأسس العنوان دلاليا عند موضوع المعركة التي تحيل على وجود صراع ناتج عن واقع مزرٍ متوحش تكرسه الرأسمالية ويحاول أن يقدم الكاتب «رؤية إسلامية» لكيفية إزالته، وهو ما يستفاد من تقديم الإسلام على الرأسمالية، فالتسبيق يقدم دلالة الأفضلية، إلا أن العنوان يحمل شحنة «رد الفعل» التي عادة ما تكون حاملة لحدة قد لا تترك أي فرصة للنقاش في فضاء الأفكار، لأنها مشبعة بالحسم، تماما كما نظرية «صدام الحضارات» التي ترسم دوائر الصراع كما لو أنها حقيقة واقعة.

يبدأ الكتاب خطابه بإشارة إلى الحالة الكارثية التي تعيشها الجماهير في مصر: «هذا الوضع الاجتماعي السيئ الذي تعانيه الجماهير في مصر..».

والكتاب ينتهي بالنداء للجماهير: «والآن أيتها الجماهير..».

يعتبر ترتيب الخِطاب على أساس توجيهه إلى الجماهير، محاولة خطابية لاستنهاض واستفزاز الكينونة المستكينة إلى الوضع المزري، الذي تسببت في تفشي مظاهره وأسبابه المنظومة الاقتصادية الرأسمالية، ولعل عناصر الاستفزاز والاستنهاض تتوفر في عرض حالة الجماهير السيئة التي يُفتتح بها الكتاب، والنداء الموجه إليها الذي يُختتم به الخطاب.

يعتبر هذا المدخل إلى الكتاب، وكأنه إيماءة إحالية على وضع قريب مرّ به الشعب المصري في انتفاضته على فساد الأوضاع في البلد، الذي تمخض عن ثورة الجماهير ضد حكم حسني مبارك، وما تلاها من أحداث تشهدها الساحة المصرية. إن الفساد مهما بلغ شأو انتشاره وقوته التي تستند إلى الظلم، فهو لا محالة زائل، وذلك ما يؤكد عليه الكتاب منذ البداية، حيث يقول عن ذلك الوضع: «نعم !غير قابل للبقاء والاستمرار، ذلك إنه مخالف لطبائع الأشياء، لا يحمل عنصرا واحدا من عناصر البقاء، يملي له الأجل، ويهيئ له فرصة البقاء».

إن الفساد مخالف لطبائع الأشياء، حسب رؤية سيد قطب، ما يعني أن الوضع المستقر اجتماعيا هو ذاك الذي يتساوق مع مبادئ «العدالة الاجتماعية» و«تكافؤ الفرص» و«عدالة توزيع الملكيات والثروات» و«توفير العمل» و«تحسين الأجور» و«قوة الإنتاج» وهو ما يشير إليه عندما يعدد مظاهر الفساد في المجتمع. إن ما يثير الاهتمام فعلا في هذا الكتاب هو توجيه معاول الحفر في الوضع المزري إلى مناطق التدهور الاقتصادي: «وكل وضع اجتماعي يكون من نتائجه شل قوى الأمة عن العمل والإنتاج، فتعويقها بهذا عن النمو والتقدم.. هو وضع شاذ». إن المنظور الذي يتقدم به سيد قطب لإنقاذ الوضع السائد آنذاك هو ذاته السائد اليوم، حتى لتكاد تتشابه الأوضاع، فنخال أن الكتاب أُلف عقيب ثورة 25 يناير/كانون الثاني، أو الانقلاب على الإرادة الشعبية بعد ذلك، لكن المميز في هذه النظرة، هو احتكام سيد قطب إلى الرؤية الاقتصادية البحتة التي ترى أن الاقتصاد هو استغلال ما تحت طائل اليد، وهو ما تطبقه الأمم التي تُعتبر اليوم في مصاف الدول الرائدة باقتصاداتها الناهضة، حين تتبع سياسة العزلة الإيجابية ومحاولة الاستفادة من الثروات الوطنية، التي تعتبر من مقومات النهضة، والتي يتم استغلالها طبقا للحاجة الملحة للتطور وتحريك دواليب الاقتصاد، وهذا كما يبدو لي هو عين ما عمد إلى إبرازه في فصل «إني أتهم» حيث أبرز المميزات الاستراتيجية للأرض، التي تعتبر المادة الخام لكل عملية إقلاع حضاري يستهدف الاكتفاء الذاتي، فهو يرى:

«إن أرضنا تملك أن تنتج؟ أضعاف ما تنتجه من غلات». «وإن الأرض الصالحة للزراعة يمكن أن تتضاعف». «وإن هذه الأرض تحوي كنوزا من الخامات والقوى المعطلة التي لا تستغل». «وإن في هذه الأرض من الثروات البشرية والقوى الإنسانية ما لا يقل عما فيها من الخدمات والقوى».

في رأيي أن في تسبيق سيد لهذا الفصل عن فصل في «الإسلام الخلاص» إنما يريد أن يوجه الفهم إلى أن الإسلام في حقيقته وجوهره هو استغلال العقل، الذي يتأسس في بحثه عن الحقيقة كعامل مشترك لدى الإنسانية، حيث يوجه، أي العقل، النظر إلى الواقع واحتمالات الاستفادة منه انطلاقا مما يحقق للذات البشرية الحرية والكرامة والعدالة وهي مبادئ طبيعية، تتناسل من طبيعة العقل ذاته الذي هو «أعدل الأشياء توزعا بين الناس» كما يقول ديكارت في كتابه «مقالة في المنهج».

وأخيرا، تجدر الإشارة إلى أن هذا المُؤَلف كُتب بحس صحافي، حيث تكتسي فيه اللغة مباشرة تتوافق وقضية استنهاض الهمم والتنبيه إلى مناطق الانكسار.

كاتب جزائري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي