بعد ستة مواسم ..مسلسل «أوزارك»: التكوين النسقي لثقافة الفساد

متابعات الأمة برس
2022-09-26

لقطة من المسلسل الأمريكي «أوزارك» (موقع المسلسل)رامي أبو شهاب *

ينطوي المسلسل الأمريكي «أوزارك» (2017-2022) على جملة ثقافية تتصل بتصميم المجتمع الأمريكي، لا على مستوى البنية الاجتماعية حسب، وإنما التكوين العميق للمؤسسة والنظام اللذين يحكمان هذه المنظومة برمتها. هذا يأتي في سياق قصة عائلة أمريكية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، تتكون من رب أسرة، واسمه (بيرد)- يؤدي دوره الممثل جيسون بيتمان الخبير في القضايا المالية، والعبقري في مهمات غسل الأموال والتهرب الضريبي، بالإضافة إلى زوجته «ويندي» وابنين مراهقين، في حين يأتي قرار المشاركة في هذه العمليات توافقياً بين أفراد الأسرة من أجل تحقيق ثراء سريع، وفاحش، غير أن الأمور تسوء في لحظة معينة، ما يتطلب الانتقال من مدنية شيكاغو إلى مكان آخر.

على ضفتي البحيرة

تنتقل العائلة إلى بلدة أوزارك، التي توجد فيها بحيرة تحمل الاسم عينه، بهدف البدء في غسل أموال عصابة مكسيكية. هناك تتقاطع مصائر العائلة مع عائلة محلية أخرى (عائلة لانغمور) علاوة على أفراد من سكان البلدة… فتبدأ متتالية من الأحداث الدرامية والمشوقة في رحلة العائلتين لتحقيق ما يصبوان إليه: أولاً عائلة «بيرد» تسعى إلى تحقيق ثراء فاحش، كما التخلص من تحكم عصابات المخدرات، في حين أن عائلة لانغمور تسعى إلى التخلص من الفقر المدقع الذي تعاني منه، غير أن مآلات الأحداث تنتهي بفناء العائلة الفقيرة (لانغمور) لصالح عائلة (بيرد) التي تدعمها شبكة من العلاقات السياسية، بالإضافة إلى حماية تجار المخدرات… على الرغم من أن ظاهر هذا العائلة يبدو مثالياً كونها تنتمي إلى الطبقة المتعلمة أو المتوسطة، وهنا يتكرر مشهد اجتماعها كل ليلة على العشاء بوصفها أسرة نموذجية متحضرة، ولا سيما مع وجود نموذج قيمي يحكمها كونها تسعى بكل الطرق (ظاهريا)ً إلى عدم التورط في القتل مباشرة، غير أنها تدمر كل من يقترب منها، ولا تتورع عن فعل أي شيء من أجل تحقيق ما تريد من منطلق المحافظة على وحدة العائلة، على الرغم من الصراع الداخلي الذي ينشأ بين أفرادها.
بحضور عائلة بيرد تنتهي عائلات: لانغمور، وعائلة سنيل، وعائلة القس، وغيرهم… هكذا تبدو عائلة بيرد أشبه بوباء يجتاح البلدة، غير أن عائلة لانغمور تتخذ وضعية خاصة، كونها تمثل الصورة المقابلة لنموذج عائلة بيرد، وفي هذا السياق نستحضر الأداء المذهل للممثلة الصاعدة «جوليا غارنز» التي جسدت دور «روث لانغمور» التي تجمع بين الجموح والقوة، مع لمسة شفيفة من الحزن. ولعل النظر إلى العلاقة بين العائلتين يعدّ تجسيداً للتكوين الطباقي بين طبقتين، أو منظورين، فمع تقدم العائلة الأولى تتلاشى العائلة الأخرى ضمن بناء درامي مثير، ينهض على وجود تحديات جديدة تتمكن عائلة «بيرد» من تجاوزها، لكن على حساب الآخرين.

يؤطر المسلسل ثنائية الظاهر والمضمر في تكوين الإنسان، وسلوكياته، وهي الصيغة التي يمكن أن نستنتجها من مسلك الشخصيات، وما يكمن في وعيها المعقد، ولهذا فإن الاحلام التي تتخلّق في وعي المسحوقين والمهمشين الذي يقطنون في الضواحي، أو على ضفة بحيرة في مقطورات كما تجسدها عائلة لانغمور، التي توازي نموذج عائلة بيرد، فالثانية تتحصل على منزل واسع وجميل يطل على البحيرة عينها، لكن كلا الضفتين تختلفان اختلافاً واضحاً، فعندما يحلم الفقير أو المهمش بتغيير واقعه يُجابه برفض المجتمع والمؤسسة له، كما أنه سيبقى أسير وصمة أو لعنة ماضيه، ولهذا فإن تكرار هذه الكلمة (لعنة لانغمور) تشي بمحاولة تعرية المنظور المجتمعي للفئات التي تبقى على الأطراف في نطاق المحاكمة المستمرة، فهي تعاني من النبذ والإقصاء، وخير من يجسد هذا المنظور الفتاة روث التي تعكس صورة من صور غضب هذه الطبقة.

ينهض المسلسل على إشارات مضمرة في تكوين البناء الدّرامي، حيث تُجسد الشخصيات في إطار نفسي، يتصل بماضيها، ومنهم الزوجة «ويندي» – تؤدي دورها الممثلة لورا بيني- فهي تفعّل نموذجاً واضحاً من العصابية النفسية المسكونة بالسلطة، والجموح، على العكس من زوجها الذي يعاني من تردد وصراع عميقين على مستوى الذات.

ينهض المسلسل على إشارات مضمرة في تكوين البناء الدّرامي، حيث تُجسد الشخصيات في إطار نفسي، يتصل بماضيها، ومنهم الزوجة «ويندي» – تؤدي دورها الممثلة لورا بيني- فهي تفعّل نموذجاً واضحاً من العصابية النفسية المسكونة بالسلطة، والجموح، على العكس من زوجها الذي يعاني من تردد وصراع عميقين على مستوى الذات، ولاسيما مواجهة طموحات زوجته التي لا تنتهي في رغبتها تملك أكبر قدر من السلطة، في حين أن هدف الزوج يتمثل برغبته في الانعتاق من سيطرة العصابة المكسيكية، والبحث عن نمط حياة طبيعي بعيد عن هذه الصخب، مع ضرورة توفر أريحية مادية.

الفساد العميق

على الرغم من أن غسل الأموال يتخذ في المسلسل الجزء الأكبر من العملية، مع بيان الطابع التقني، وما ينطوي عليه هذا من آثار ثقافية كما في المشهد الذي يظهر فيه الأب، وهو يغسل الأموال في الغسالة الآلية كي يضفي عليها طابع الاستعمال اليومي، وهي دلالة واضحة لنقد نموذج حقيقي وقار في بنية المجتمع الأمريكي الذي تٌمارس فيه العملية، غير أنّ الأهم قراءة ما يكمن في هذه العملية من تداخل بين عالم الجريمة، وموقف السلطات الأمريكية من هذه العملية التي نتبين بأنها تتصل بنموذج فساد سياسي، علاوة على الاهتمام بالأموال المتحصلة عن مصادرة هذه التجارة، وما يمكن أن ينتج من صفقات بين الحكومة وتجار المخدرات، تبعاً لشروط تتصل بتحقيق مكاسب مادية، غير أن الأهم أن هذه التجارة تبدو جزءاً من اللعبة التي تمارسها الدولة، فحينا تتغاضى عنها، وحينا تسعى إلى محاربتها تبعاً للموقف السياسي المتحول؛ ولهذا نرى أن المسلسل ينحو نحو رسم وهم الحدود بين عوالم الجريمة وعوالم السياسية، ولاسيما عبر الزوجة «ويندي» التي تتمكن من بناء شبكة من العلاقات السياسية التي تصل إلى حدود السيطرة على أعضاء في مجلس الشيوخ بغية تحقيق ما تريد، وهكذا تتكشف هشاشة المؤسسة السياسية، وارتهانها إلى المال؛ ما يعني أن الصورة الظاهرية لأسرة جميلة وطبيعية تمارس غسل الأموال بالتورط مع عصابات إجرامية تحت سلطة الدولة، يبدو مظهراً من مظاهر توصيف هذا الواقع الذي ينهض على سحق الهامشي والضعيف عبر تواطؤ ثلاثي، أركانه الطبقة البورجوازية، والعصابات، والسلطة السياسية، وهكذا تنحصر الصورة في قراءة بيان التموضع الطبقي للمجتمع الأمريكي عبر هذه التكوينات الدلالية في المسلسل الذي يتخذ من أوزارك نموذجاً مصغراً لعالم أكبر.
ينسحب نموذج الفساد المستشري على النقابات المهنية، وقادة المباحث الفيدرالية، بل من الصعوبة بمكان الإتيان على كل ما يزخر به المسلسل من عملية تعرية قيمية للكثير من الأجسام المجتمعية، ومن ذلك تمثيلات الفساد التي تطال مهنة المحاماة، وشركات الأدوية، والنظام القضائي، بما في ذلك أعضاء في السلطة التشريعية، وغيرها من الأجسام التي عبرت المسلسل، في إشارات قد لا تبدو لنا منجزة إلا عند وضعها في إطار عام للتحليل الثقافي.

العِرق والدين وأشياء أخرى

تعدّ قراءة التكوين العرقي لقطاعات تتصل بالتنميط الثقافي، تبعاً للون والعرق والطبقة، ومن ذلك رئيس العصابة المكسيكي، وتناقضه القيمي والديني، علاوة على الصراع بين أفراد عائلته على القيادة، مع حرصهم الشديد على أداء الطقوس الدينية، في حين يستخدم القس أو الكنيسة في مجتمع أوزارك لترويج المخدرات، وهنا نقرأ رمزية واضحة بخصوص الدين، وما يتطابق مع مقولة، إن الدين أفيون الشعوب، في حين أن جميع المؤشرات الدلالية في المسلسل تشير إلى أن العالم تحكمه نزعة تبادل المصالح بغض النظر عن كم الضحايا. وفي الحدود عينها نعبر إلى تلك العلاقة المتوترة مع الريفيين أو الأمريكيين البيض المتشددين، كما تجسده عائلة (سنيل) التي تزرع المخدرات في الأراضي التي تملكها، بل إنها تسيطر على السلطة في المدينة، ونعني رئيس الشرطة الذي يتغاضى عن جرائم هذه العائلة، وما تقوم فيه من تجاوزات، ولاسيما بداعي قوة السيدة المسنة (دارلين سنيل) التي تبدو أقرب لشخصية سيكوباثية متوترة، فهي لا تتردد في قتل كل من يقف في وجهها، بمن في ذلك زوجها عندما يعارضها في بعض القرارات، أضف إلى ذلك عنصريتها تجاه الأعراق الأخرى.

يعتمد المسلسل في أدائه على رؤية إخراجية يمكن وصفها بالواقعية المتوازنة، كونها تعتمد على الوفاء بما يكمن عليه النص من دلالات، لكن دون التطرف في مبالغات إخراجية ربما تقود إلى إفقاد العمل الإيقاع المطلوب، فليس ثمة مبالغات بطولية، أو تشييد شخصيات تتسم بدور بطولي جذاب، إنما على العكس ثمة حرص على تقديم أداء متوازن يتصل ببناء الشخصية في جميع تجلياتها.

هذه الصورة السوداوية لا تنجز بسهولة، إنما ينبغي الحرص على توفير شيء من الأمل عبر الإبقاء على وجود بعض الأشخاص الأخلاقيين، أو الأنقياء غير الملوثين بوهم المال أو السلطة، لكنهم مع ذلك يبقون أفرادا، وغالباً ما ينتهون إلى أن يكونوا ضحية ما يؤمنون به من مبادئ ومثل، لا تنسجم مع هذا المحيط، ومن ذلك المحققة الأمريكية من أصل افريقي، كما المحقق الخاص في اختفاء المحامية، بالإضافة إلى شقيق (ويندي) وغيرهم من الذين يعانون في ظل حماية المؤسسة لهذا الفساد، المكسو بطبقة رقيقة من البريستيج، أو بمعنى آخر أكبر قدر من البشاعة التي تتقنع خلف قناع جميل.

رؤية أخيرة

يعتمد المسلسل في أدائه على رؤية إخراجية يمكن وصفها بالواقعية المتوازنة، كونها تعتمد على الوفاء بما يكمن عليه النص من دلالات، لكن دون التطرف في مبالغات إخراجية ربما تقود إلى إفقاد العمل الإيقاع المطلوب، فليس ثمة مبالغات بطولية، أو تشييد شخصيات تتسم بدور بطولي جذاب، إنما على العكس ثمة حرص على تقديم أداء متوازن يتصل ببناء الشخصية في جميع تجلياتها، فهي أقرب إلى صيغة واقعية تنطوي على الكثير من الثراء الدلالي. ولعل من أبرز تلك الشخصيات رب الأسرة «بيرد» الذي يؤدي دوره الممثل جيسون بيتمان الذي قام أيضاً بإخراج عدد من حلقات المسلسل، في حين أن باقي الحلقات أخرجها مخرجون آخرون، ومنهم المخرجة الفلسطينية شيرين دبس.
لقد بدا اختيار طاقم الممثلين موفقاً، علاوة على توظيف البيئة المكانية التي اختيرت بعناية، حيث البحيرة بهدوئها، وتناقضها تحاكي شخصية «بيرد» عينه؛ بما يتسم به من غموض، وبرود، وتوتر، وحيرة، ولاسيما مواقفه المتشظية بين قيمه، وواقعية عالمه، كما أن البحيرة تمثل رمزية التناقض بين مكونات طبقية، مع أن «بيرد» يسعى لأن يُبقي على العمليات ضمن أقل قدر من الأضرار من منطلق مبدأ السلامة الذاتية لعائلته، مع محاولة أن يبقي على خياراته في طابع إنساني، غير أن بعض الظروف تدفعه للتضحية بالآخر، ما يحملنا إلى تناقضه الذي يشكل جزءاً من هوية المجتمع، وفلسفته، لتنسحب هذه المقولة على كل شيء يكمن في الثقافة الأمريكية عبر مقولة الغاية تبرر الوسيلة.
في ختام المسلسل، تنتهي الأمور تقريبا لصالح العائلة التي تتمتع بالذكاء، والحيلة، وبشيء من الحظ، لكن الأهم المحافظة على تماسك العائلة، إذ نرى في المشهد الختامي الابن المراهق يحمل بندقية في مواجهة المحقق الذي توصل لحقائق تدين العائلة، فتغلق الكاميرا على صورة مظلمة، ومن ثم نسمع صوت طلق ناري؛ ما يتركنا أمام تحول هذا الطفل إلى مجرم، ذلك أن الصيغة متتالية، أو تم ترحيلها إلى الجيل الآخر، لينتهي هذا المسلسل الذي تمكن من تحقيق نسبة مشاهدة عالية، وحصل على العديد من الجوائز، وتصنيف متقدم.

 

*كاتب أردني فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي