إلفيس بريسلي الأفرو – أمريكي

2022-08-15

صبحي حديدي

لعلّ واحدة من نقاط ضعف «إلفيس»، الفيلم/ الظاهرة الذي عُرض للمرّة الأولى في مهرجان كان الفرنسي، أيار (مايو) الماضي والذي تصدّر شبابيك الإقبال بـ30,5 مليون دولار خلال الأيام الثلاثة الأولى على ابتداء عروضه في أمريكا؛ أنّ مخرجه الأسترالي باز لورمان (صاحب «روميو وجولييت»، و»غاتسبي العظيم» و»الطاحونة الحمراء») شاء أن يروي صعود نجم موسيقى الـ»روك أند رول» الأشهر إلفيس بريسلي (1935 ــ 1977) من زاوية نظر الكولونيل توم باركر، مدير الأعمال الجشع والاحتكاري والاستغلالي الذي رافق صعود بريسلي وكان وراء الكثير من مظاهر التألق والتعثر التي رافقت مسيرة نجم الستينيات والسبعينيات.

على هامش النقاشات التي أطلقها «إلفيس» الفيلم، في البُعد الذي يخصّ تأثره بالموسيقى الأفرو – أمريكية، أو استحواذه عليها كما يساجل البعض؛ استُعيدت نقاشات قديمة تدور حول مسائل شتى متباينة متقاطعة، يختصرها غالباً سؤال مركزي: هل بقاء إرث بريسلي قَدَر محتوم؟

صحيح أنّ العهدة بالدور إلى أستاذ كبير مثل توم هانكس، والمجازفة ربما بتغييرات قاطعة وغير مسبوقة في شخصه وهيئته البدنية التي شملت رأساً أضخم وصلعة مفاجئة وبدانة جلية وإنكليزية ذات لكنة هولندية؛ إلا أنّ خيار السرد بلسان الكولونيل فرض بالضرورة إغفال بعض الجوانب الأهمّ في تنشئة بريسلي، خاصة كبح جماح انحيازاته السياسية وانخراطه في أنشطة الحقوق المدنية، خلال أزمنة شهدت تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية عاصفة. لم يغفل لورمان، مع ذلك، تأثر بريسلي العميق بالموسيقى السوداء عموماً والغناء الإنجيلي، وبين أكثر مشاهد الفيلم إبهاراً ذاك الذي يلتقط الفتى ألفيس وهو يدلف خلسة إلى خيمة للكنيسة الخمسينية الأفرو – أمريكية في بلدته توبيلو، فيُصعق إزاء أداء الأجساد واختلاف الموسيقى، وتُقدح تلك الشرارة الأولى التي سوف تشعل لهيب الـ»روك أند رول».

وفي هذا الجانب تحديداً، يُسجّل للمخرج الأسترالي أنه استعاد (في لقطة قصيرة، مع ذلك) شخصية سيستر روزيتا ثارب (1915 – 1973)؛ التي يتفق الكثيرون على أنها الأمّ الرائدة، والبعض يقول: العرّابة، لتطوّرَين حاسمين في الموسيقى الأمريكية خلال النصف الأوّل من القرن العشرين: إدخال نمط اهتزاز الجسد باستيحاء الطقوس الروحية الأفرو – أمريكية ولكن بمصاحبة الغيتار الذي لم يكن من الشائع أن تحمله امرأة، والمزج الناجح تماماً في النصّ الغنائي بين التهدّج الديني والانسراح العلماني. ولا يخفى، رغم أنّ لورمان لا يشدّد بصفة خاصة على هذا البُعد، أنّ أحد الأسباب السوسيولوجية وراء صعود بريسلي كانت خشية التذوّق الموسيقي الشعبوي، في أمريكا تلك الحقبة، من سطوة فنانات وفنانين أفرو – أمريكيين من عيار كرَدَب، بيغ ماما ثورنتون، ليتل ريشارد، بالإضافة إلى ثارب؛ وهؤلاء يحضرون جميعاً في الفيلم، والعهدة إلى المغنية الإنكليزية يولاند كلير كوارتي (يولا) بأداء دور ثارب كان خياراً ذكياً، لم ينطوِ على مجازفة من النوع الذي اقترن بأداء هانكس في شخصية الكولونيل.

تُفهم، استطراداً، الأثقال التي أُلقيت على كاهل الممثل الأمريكي الشاب أوستن بتلر الذي تولى دور بريسلي في فيلم لورمان، إذْ أعلن الرجل (وللمرء أن يصدّقه، من دون تحفظ) أنه درس ما توفّر له من أشرطة سمعية وبصرية تخصّ «الملك»، وحملق في كلّ حركة وإيماءة ونأمة، وسعى جاهداً لتدريب صوته كي يحاكي ما أمكن طرائق بريسلي في النطق والتلفظ والكلام؛ بل ذهب إلى درجة التدرّب على الكاراتيه لتطويع جسده، بما يقلّد ارتجاجات نجم الـ»روك أند رول» واهتزازاته. ولم يخفف من الأثقال، بل لعله زاد في وطأتها، أنّ المخرج الأسترالي اعتمد إدخال مادّة وثائقية بين مشهد وآخر، وتوجّب على بتلر أن يذكّر المشاهد دائماً بأنه ليس «الملك»، حتى في ذرى قصوى شاقّة من جهده الأدائي الأخاذ.

وعلى هامش النقاشات التي أطلقها «إلفيس» الفيلم، بصفة خاصة في هذا البُعد الذي يخصّ تأثره بالموسيقى الأفرو – أمريكية، أو استحواذه عليها كما يساجل البعض؛ استُعيدت، كما يليق بها في الواقع، نقاشات قديمة تدور حول مسائل شتى متباينة متقاطعة، يختصرها غالباً سؤال مركزي: هل بقاء إرث بريسلي قَدَر محتوم؟ نعم، بالطبع، يجيب الملايين من أنصار «الملك»، أو «ملك الملوك»، في أربع رياح الأرض وليس على امتداد أجيال وأجيال من الأمريكيين؛ والبرهان الأوّل هو الحجيج السنوي إلى مدينة ممفيس، في 16 آب (أغسطس) من كلّ عام، على سبيل إحياء ذكرى رحيل الأيقونة إثر تناوله جرعة عالية قاتلة من المخدرات.

وفي شوارع ممفيس تتفنّن الوفود الأجنبية في إدخال عشرات التنويعات على ملامح «الملك»: ضمن الالتزام التامّ بالعناصر الكلاسيكية المعروفة لهيئة الملك (الشعر الأسود، التسريحة المميّزة، الياقة العريضة، السترة الجلدية)، ثمة بعض الخصائص «الوطنية» للبلد الذي يجيء منه الوفد: هذا إلفيس ألماني، وذاك إلفيس أسترالي، والثالث ياباني، والرابع أفريقي من توغو! وهنالك، بالطبع، «بزنس» ثقيل، بعشرات الملايين من الدولارات، تتحكم فيه شركة تدعى Elvis Presley Enterprise، تحتكر إنتاج أو ترخيص مختلف أنواع البضائع المعتمدة على شخصية الملك، تديرها أرملته برسيلا وابنته الوحيدة ليزا ماري.

«سنة بعد سنة سوف يصبح الإعجاب بشخصية إلفيس عقيدة مستقلة، لأنّ عشاقه سيحولونه إلى مسيح رمزي، وستصبح غريسلاند بيت لحم ثانية»، تقول بيكي يانسي التي عملت سكرتيرة شخصية للملك طيلة سنوات عديدة؛ وتبكي بحزن صادق، لأنها كانت في عداد قلّة قليلة اختبرت عن كثب تلك الجوانب الآدمية الإنسانية في شخصية بريسلي: نجاحاته وإخفاقاته، أفراحه وأتراحه، قوّته وضعفه.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي