«سلفي» للتونسية علياء رحيم: الكتابة بلغة الشخصيات المثقفة

2022-08-11

رياض خليف

ننظر إلى اللغة في هذا النص لا باعتبارها بناء لسانيا، لكنها لغة حية تعبر عن انتماء اجتماعي وسياسي وطبقي للمتكلم، مقتفين في ذلك خطى التفكير الباختيني الذي يعتبر أن كل متكلم يدخل النص حاملا معه لغة طبقته. فالنص السردي فضاء مفتوح للغات اجتماعية أيديولوجية مختلفة، وليس مجرد علامات لسانية.

وفق هذا المنطق ننظر إلى شخصيات هذه المجموعة، باحثين في ملفوظها من وجهة سوسيولوجية. وقد سجلنا هيمنة اللغة الأيديولوجية للشخصيات المثقفة على أغلب القصص، متفاعلة مع الذاكرة الثقافية والإبداعية، محتفية بتجارب فنية وأدبية مختلفة. فكيف تهيمن لغة المثقف على هذه المجموعة؟ وأي دلالات تعبر عنها؟

لغة المثقف

يبدو عنوان هذه المجموعة طريفا، ملتقطا من ثقافة العصر ومصطلحاتها، لكن إذا كان هذا المصطلح يحيل على التصوير الهاتفي، فإن الكاتبة تمارسه عبر الكتابة، وتجعله مرايا فاضحة لهذا العصر وكاشفة لخباياه. فهذه القصص تأتي مزدحمة بالمشاعر الداخلية الكامنة في النفس، من خيبة وإحباط، يطغى عليها خطاب الذات، ذات الراوي المتخيل وذوات الشخصيات وهي تتحاور وتتبادل البوح. فنحن أمام شخصيات شديدة الانفعال بهذا الواقع، تكشف لحظات قهرها وألمها. وقد حرصت الكاتبة على جماليات هذا السرد، فجعلته رشيقا لا إطالة فيه ولا تكرار، سرد مشبع بالإنشائية ومحتفل باللغة الأدبية، تتقاطع في داخله النصوص، وتلوح أصداء أصوات بعيدة تجلبها أصوات الشخصيات المثقفة التي يهيمن حضورها على هذه الأقاصيص. فعلياء رحيم تكتبها بضمير المثقف الموجوع في هذا الزمن الموجع، الذي وسمته في الإهداء «بزمن الافتراس الآدمي»…

فلا تخلو هذه القصص من تواصل مع الذاكرة الثقافية الجميلة، عبر ما يجسده ملفوظ الشخصيات، فأغلبها شخصيات مثقفة تتلفظ بالثقافي وتتحاور أحيانا كثيرة بشيفرة ثقافية، مستعيدة أسماء وأعمال إبداعية مختلفة ـ لا معنى لها إلا عند المثقفين. فصوت الذاكرة الثقافية يبدو عاليا في هذه المجموعة، هازما صوت الثقافة الجديدة، ثقافة السلفي والوسائط الاجتماعية. فتتحرك هذه القصص في أفق ثقافي جاد ورامز. فإذا بهذه الشخصيات تذكر أيام قرطاج السينمائية في العاصمة وتتعاقب فيها النصوص والأغنيات من مارسيل خليفة إلى صنع الله إبراهيم وشارل أزنافور… يطالعنا ذلك في» لمن تبتسم أيها المعتوه؟».

فهذا «صخب مقهى الأفريكا صباحا حول فنجان القهوة أيام قرطاج السينمائية. اسطوانات السبعينيات التي تخفيها أمي بعناية في خزانة ذكرياتها» وهذه مقارنة لشخصية بشخصية روائية. «قل لها إنها مختلفة عن شخصية ذات في رواية صنع الله إبراهيم». وفي «ذاكرة من زجاج» يأتي ذكر لوحات بيكاسو ورواية سهيل إدريس» «لوحة أولفا المنسية على جدار مهمل» (راقصة روسية وقع بيكاسو في غرامها) ولوحة جديدة لا مكان فيها لحصان بيكاسو» فإذا بالخيال السردي يحرك اللوحتين ويصنع منهما أحداثا: عندما تحرك القطار رجع حصان بيكاسو مكسورا إلى سجن لوحته وعاد حذاء أولغا الحريري إلى موضعه الأول». وتستعيد هذه القصص رواية «أصابعنا التي تحترق» لسهيل إدريس وكونديرا وجورج مامادو…

وتحضر في هذه القصص الذاكرة الغنائية الراقية فتجد، ذكرا لأم كلثوم وناظم الغزالي وجاك بريفار، فهذه الأم في قصة سلفي «تحب شابلن والماريشال عمار وتبكي عند استماعها إلى رائعة أم كلثوم» و»ترتفع عقيرتها بالغناء حياك بابا حياك..». هذه الإحالات المختلفة على هذه المواد الثقافية تضخ في لغة الشخصيات مكونا ثقافيا بارزا، وهو ما يجعل المجموعة مجموعة الشخصيات المثقفة، أو لنقل صدى للمثقف الجاد في العقود السابقة، ملتحما بالفكر النقدي ومنتصرا للإبداع العميق. لعل هذه اللغة الثقافية تحمل إلى هذه القصص أصواتا عديدة يعاد زرعها في سياق جديد عبر آلية التناص، وهو ما يجعلنا أمام عالم من النصوص الغائبة والخطابات الفكرية المختلفة التي تزرعها الكاتبة في مجموعتها، لتحمل الكثير من المعاني.

هذا الأفق الثقافي يضاف إلى لغة قصصية تنهل من الرومنطيقية والشعر والبوح الجميل. فنحن أمام نصوص تهتم الكاتبة بجمالياتها ورونقها وتضع لها عناوين داخلية مربكة. لكن هذه الجمالية تصطدم بمكون طارئ على هذه الشخصيات. فهناك حالة من الحيرة والفجيعة والخيبة ناتجة عن أحداث البلاد وتطوراتها، وهناك اصطدام بالواقع الجديد.

كتابة «زمن الافتراس»:

نلتقط هذا العنوان الصغير من عتبة الإهداء، فالكاتبة تلوح منذ البداية بهذا البعد النفسي المتوتر، الذي جسدته الشخصيات، وسارت منصاعة في سياقه، فبعض القصص تلوح بنهايات كئيبة وموجعة. تنتهي بأحاسيس مؤلمة:

«إنك الربيع المغدور بطعنة خنجر في ظهره»

وسيدة قصة الصباح من زاوية أخرى «بعينيها ترسم سيريالية الصمت على قارعة اللغة المتحجرة». وبعض القصص الأخرى تقتحمها أخبار البلاد العربية ومشاهد عالقة في الذهن من مصائب السنوات الأخيرة. فهذا المذيع في عصافير الخوف يعلن: «نعلمكم وببالغ الأسى أن الهجوم الإرهابي الذي شهدته مدينة بنقردان ليلة أمس قد أسفر عن مقتل سبعة عناصر من جيشنا الوطني ومن قوات الأمن الداخلي».

في هذا الأفق الخائب من الانكسارات والتحولات الطارئة على المثقف العربي في هذه المرحلة تكتب علياء رحيم أقاصيصها، بجرأة وبحدة، ملتقطة أنين المثقف وانكساراته في لحظة فارقة تنهار فيها المعاني والقيم وتتداعى الأحلام.

ويمكن القول ختاما إن علياء رحيم تقدم في هذه المجموعة على مكاشفة اللحظة وكتابة ما فيها من كآبة وانكسار، في ظل واقع مرتبك ومتداخل وذلك يضاف إلى جهودها على امتداد عقود إعلامية مشتبكة، تمارس خطابا نقديا مستمرا وتسهم في الساحة بعناوين شعرية وقصصية خاصة.

كاتب تونسي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي