«أرى أصواتا في الزوبعة»: القصة القصيرة ولعبة التغريب

2022-08-02

رياض خليف

منذ مجموعته القصصية الأولى ظهر الكاتب التونسي عيسى جابلي نافرا من قصّ اليومي المألوف، رغم أن قصصه تنغرس في هذا الواقع ولا يمكن فصلها عنه، باحثا عن طريق مختلف لكتابته، شاقا طريق الغرابة، بحثا بين ثناياها عن جماليات قصصه، سائرا في هذا الدرب الباحث عن كسر النمطية ومفارقة اليومي والتخلص من واقعية المحتمل والمألوف، نحو واقعية يمكن أن نعتبرها مضادة، تحفل باللامحتمل واللامتوقع على صعيد الحكاية… فعيسى الجابلي ينشئ أقاصيصه في هذا الواقع المألوف بفضاءاته وشخصياته المتخيلة ونواميسه، لكنه يزرع فيها ألوانا من الغرابة، ويجعلها مفتوحة أمام الغريب والعجيب. وقد كرست هذه المجموعة الجديدة «أرى أصواتا في الزوبعة» هذا المسعى، ملوحة بطابعها التجريبي في العتبات، معلنة انخراطها في الكتابة القصصية الجديدة تنهل من إنشائية الغرابة التي سنحاول التطرق إلى بعض وجوهها في هذا النص.

في عتبات منخرطة في التجديد يصافحنا عيسى، منزاحا عن التصنيف التقليدي الذي اعتدناه في مثل هذه الأعمال.. من مجموعة قصصية إلى كتاب قصصي، ومن التصدير باللغة العربية الذي ألفناه في الأعمال الأدبية باللغة العربية، إلى تصدير باللغة الفرنسية بمقولتين لكل من david lynch وcharles baudelaire. وما ذلك غير إعلان انتماء إلى التجريب، وتغليف لهذه الغرابة التي يلقاها القارئ في هذه المجموعة، والتي يلمسها في عناوينها الداخلية. فالكاتب يطلق عناوين قائمة على التضارب، وباعثة للإثارة بما فيها من غرابة مثل طفل أزرق وحياة على وجه الخطأ أو رجل يراقص العاصفة ـ والمؤخرة الرئاسية أو حكاية الراوي الذي يرجح أنه بقرة أو بطن اسمها آدم.

هذا التغريب يشكل محور اهتمامنا في هذه القراءة الأولى. فكيف يضخ الجابلي الغرابة في هذا الواقع، منشئاً شعرية غرائبية، ومباعدا بين سرده واليومي؟

استعادة المخيال العجائبي

يوظف الكاتب في هذه المجموعة ألوانا من العجيب والخارق، مستفيدا من مخيلة محلية مكتظة بالحكايات والخرافات العجائبية، لكنه لا يوظف تلك الخوارق توظيفا مباشرا، بل يصنع خوارقه وعجائبه، موحيا بذلك الخطاب. ويمكن القول إنه يعتمد تقنيات وتصورات التخييل العجائبي. وهو ما يظهر في قصص كثيرة.

فحديث السارد عن الرجل الذي يظهر في صورته هو، تجسيد لهذا المخيال. فهذه صورة رجل تلاحق السارد من مكان إلى مكان ومن زمن إلى آخر:

«من الغد كنت أمام عدسة أخرى. كان قلبي يدق كمن ينتظر حتفه المحتوم. سحب المصور الصور الجديدة ونظر إليّ فزعا. كان يشير بأصابعه إلى خلفية إحداها.

-هذا غريب ثمة رجل يظهر في الصورة.

تأملته كان في الهيئة نفسها. الغبرة الداكنة على شعره ولحيته الشعثاء تزيد ظلمة عينيه سوادا.

هذه النزعة إلى العجيب تبرز حتى في محاولة وصف هذا الرجل، فهناك حرص على اختيار هيئة مخيفة. ومن مظاهر العجيب الأخرى في هذه القصة نطق الراوي وهو في جنازته ووصفه لبعض الجنازة وما يصله منها من أصوات:

«كانت تصلني ولولة زوجتي وابنتي التي تجر ولدها الصغير خلف الجنازة بخطى ثقيلة. كنت في ذلك الصندوق الخشبي المحمول على أكتاف الرجال أضحك عاليا في صمت لم يعد يسمعه الآن إلا الرجل الذي يظهر في خلفية الصورة..».

ومن مظاهر الكتابة بالمخيال العجائبي أيضا، حكاية الحصان الوردي الذي تراه البنت لوحدها، «ما بدا لي غير منطقي أنني لم أر الحصان أصلا. لما لاحظت شرودي وارتباكي، تسرب إلى وجهها الصغير طيف خيبة، وأنا أنكر وجود حصان وردي في غرفتها». ومن مظاهر هذا التوجه أيضا خبر الشيخ الذي «داهمه عطاس متصل في السوق، وكان يطلق في كل عطسة جحشا يفر من أنفه مسرعا فيسرح في البرية». الكاتب يستخدم في أغلب قصصه تقنيات الخيال العجائبي، ساردا ما هو غير مألوف وأليف، مربكا اليومي ومؤكدا خيالية القص. ولعل هذا التغريب يأخذ وجها ثانيا، يتصل بأنسنة الأشياء.

أنسنة الأشياء

الأنسنة تقنية من تقنيات التخييل الأدبي، تتمثل في إسقاط صفات وأفعال وأحاسيس إنسانية على الأشياء والحيوانات، وهي تقنية طريفة وتدعم رصيد التخييل في النص السردي. وهي أسلوب يوظفه عيسى في هذه المجموعة، مؤنسنا بعض الأشياء، معطيا بعضها أفعالا والبعض الآخر صفات إنسانية، من ذلك دمية الصندوق التي صارت صديقة للساردة التي «صارت تلعب معها في خلوتها» وتصحبها وقد أعطاها الكاتب صورة الأنثى الحقيقية «في كل مساء أسمع خطى كعبها العالي عائدا من جولته اليومية». ومن هذه الأنسنة أيضا، إسباغ صورة العروس على شجرة التوت في قصة «نبض الجبال».

«لبست شجرة التوت فستانا أحمر كعروس تركية قديمة ورحت أعد طقس الحناء. رأيت نسوة الجبل يطفن بها مرتلات أغاني حزينة. كانت التوتة العروس محجوبة الوجه في حياء».

استدعاء الكتّاب

يقحم الكاتب في سرده أسماء بعض الكتاب من محيطه، كاسرا خطية السرد ومضربا بذلك عن الحكاية الخيالية، على غرار ما يرد في قصة الرجل الذي أبصر سلحفاة. فالسارد يقطع السرد ليحاول الاتصال بعدد من الكتّاب مثل، آمال مختار وإبراهيم الدرغوثي وكريمة العباسي وشوقي العنيزي وشكري المبخوت.

«ثم أقطع الخط وأتصل بإبراهيم الدرغوثي. سيستقبلني بضحكته التي تشبه كاتبا كبيرا وسيقص عليّ طرفة جريدية لكني سأقطعها».

صفوة القول، إن عيسى الجابلي ينهل من هذه الإنشائية القائمة على التغريب وبلبلة اليومي وتثويره، بما يبث بين طياته من عجيب وغريب. ومن الأكيد أن ما أشرنا إليه لا يسلط الضوء على الكثير من جماليات هذه المجموعة، مكتفيا ببعض مظاهر التغريب التي يمارسها الكاتب، بحثا عن نص جديد وعن هدم عوالم الألفة.

كاتب تونسي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي