«خابية الحنين» لجمال أبو غيدا: الاستدعاء الحكائي… التأريخ وتأمل الأفكار

2022-07-31

رامي أبو شهاب

يعدّ جمال أبو غيدا أحد أبرز المترجمين الذي يتملكهم مشروع ثقافي ينهض على انتقائية ورسالة تتقصد بيان الأثر السياقي المتصل بأدب الرحلات الغربية، واستقراء الخطاطات الأرشيفية، كما لوحظ في عدد من ترجماته، وهي كتاب ماري إليزا روجز بعنوان «الحياة في بيوت فلسطين»، وكتاب جيمس فن «أزمنة مثيرة»، ومؤخرا كتاب «بعثة مشاة البحرية الأمريكية المارينز لاستكشاف نهر الأردن والبحر الميت»، غير أن ثمة دوراً إبداعياً لا يقل أهمية عن الترجمة، ولا سيما حين يتصدى أبو غيدا للكتابة السردية ضمن رؤية لا تبدو معنية بأن تكون ضمن السباق المحموم، الذي يسم المشهدية السردية العربية المأخوذة بسحر الجوائز، واختصار الطرق للشهرة، ولاسيما لدى الكتاب الناشئين، فجمال أبو غيدا يتخذ من السرد أفقاً يستهدف مزج السند الواقعي في إطار صيغة تخييلية تتكئ على مرجعية الزمن، بوصفه سياقاً للحدث، ومع ذلك فهي ليست رواية تاريخية بالمعنى التقليدي، إنما هي رواية تتخذ من التأريخ إطاراً للفاعلية الخطابية، ومركزها نموذج حكائي واضح، قوامه تكوين شخصيات لا تبدو واقعة في شرك النمطية، أو الوظيفية بمقدار ما تبدو أقرب للتجسيد الواقعي أو الكلاسيكي الذي يميز صيغ الرواية، ومعايير تكوينها من حيث القدرة على البناء والتوصيف والتنوع، علاوة على التشخيص والإسناد الوظيفي تبعاً للدور والغاية الدلالية لكل وحدة سردية.

الأفكار: وهم أم توّهم!

في روايته بعنوان «خابية الحنين» المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2016، نقرأ سرداً يعتمد الراوي العليم الكلي، الذي يضطلع بحكاية الأزمنة والتاريخ، ولكنها تعدّ أبعد من ذلك كونها تسعى إلى توصيف الأفكار، وبيان هشاشة الأيديولوجيا، ووهم الأحلام، كما التحول في عالم شهد انعطافة واضحة لانهيار الأفكار الكبرى، وخواء أزمنة النضال، حيث ساد اعتقاد عميق بوجود الحقائق والقيم القائمة على أيديولوجيات نقية، غير أنها بدت عند اختبارها أكثر من هشة، وهذا ما لا يمكن أن نعدّه سوى محاولة سردية لتعرية الأيديولوجيات، ونبش الخبايا والمواقف التي قد تُبنى على مقاربة أو خبرة واقعية (شخصية) تتداخل في كثير من الأحيان مع المتخيل السردي أو تستند إليه بذكاء.

في نص سردي يتكون من (464) صفحة بدت في بعض الأحيان أسيرة الحرص على بناء سردية تتوخى الواقعية، أو الحرص على تمكين المطابقة بغية الإيهام بتحقق المرجعية، ما أحدث شيئاً من تضخم المتن، وبروز امتدادات كان يمكن التّخفف منها، ومع ذلك يمكن إيجاد مسوغات لهذا النهج، بداعي الحرص على تمكين التدقيق في تكوين الشخصيات ورسمها، فضلاً عن بيان مرجعياتها، ونموها، والأهم تحولاتها، وهذا ينسحب على بناء الفضاء المكاني، كما الاتكاء على الحوار مع توظيف المحكية أو العامية، بهدف بث الروح في الشخصيات ضمن التشكيل السردي.

تنهض الرواية على زمنين مركزيين يتناوبان التمظهر في المتن السردي، الزمن الأول يتحدد مع النكسة، ومن ثم أيلول الأسود 1970، مع ما يستدعيه ذلك من استرجاع، أو تقديم، وينهض على محورية عائلة سلمان الكمالي اللاجئ الفلسطيني، الذي يسكن أحد بيوت عمان.. تتكون الأسرة من الأب (سلمان) والزوجة سلافة والابن نايف، وشقيق الأب فواز، يحتضن هذه العائلة بيت مستأجر من أم عواد – أردنية مسيحية – تمارس في تكوينها رسم علاقة الأخوة بين المكونين الفلسطيني والأردني، كما تجسده أيضا شخصية الضابط المتقاعد، الذي يقوم بتأمين الحماية والرعاية للفدائي، بعد أن لجأ إليه فواز أثناء أحداث أيلول/سبتمبر، وهنا تبدو الرواية قائمة على رسم ملامح تطور شخصية نايف، الذي يعد قاسماً مشتركاً بين الأزمنة، فنراه طفلاً يراقب في الجزء الأول، ومن ثم شاباً متحمساً في الجزء الثاني، وفي نهاية الرواية أمسى رجلاً مكتمل الرجولة، وبين هذه الأزمنة ركام من التحولات التي تتصل بشخصيته، بدءاً من تشوّهات النكبة، ومروراً بالنكسة، ومن ثم حرب أيلول، وانتهاء بأحداث جامعة اليرموك حين كان طالباً جامعياً، وأحد المتصلين بالحراك الحزبي اليساري أو الماركسي، ضمن خلية حزبية طلابية، غير أنه سرعان ما ينسحب منه تنظيمياً، ولكنه يبقى وفياً لأفكاره، كما يحرص على أن يبقى جزءاً من الحراك الدامي الذي شهدته جامعة اليرموك في شهر أيار/مايو 1986.

تبدو الرواية مسكونة بالكثير من القضايا التي تحتاج للتأمل في سياق تلك الأزمنة، إذ لا يمكن أن نجزم بمقولة المحاكمة، بمقدار ما نعتقد بالرغبة في استدعائها، ووضعها في منظور مختلف، ولاسيما ما شهدته من مواجهات بين الطلبة وقوى الأمن، كما يمكن أن نلاحظ بأن ثمة نقداً واضحاً للقيادات الحزبية التي أسهمت في هذا، ولاسيما حين ذهب الطلاب للقاء القيادة التي ظهرت منفصلة عن الواقع، كما نرى في مشهدية المكتب الفخم، والسكرتيرة الجميلة، علاوة على وعود لم تتحقق، هنا نرى أن تقييم وجهة النظر هذه قد تبدو جزءاً من خطابية الرواية، التي تسعى لأن تقيم تصورها بعد مضي زمن على تلك الحوادث.

تبدو الأمور واقعة في سياق تلك الاستثمارات، أو استغلال القوى الشبابية أو الطلابية المتحمسة للأفكار، أو الأيديولوجيات، ولكنها تبدو مبتورة، أو غير قائمة على وعي حقيقي، فعطا ـ زميل نايف ـ وهو أحد القيادات الطلابية بُعيد تنظيره عن البروليتاريا يخرج علبة سجائر المارلبورو متجاهلاً ما كان يهذر به حول الوعي بالطبقية، كما نراه في نهاية الرواية قد أمسى ضابطاً في قوى الأمن الفلسطيني، في حين أن والده يقوم بتوريد اللحوم لهذه القوى، بينما الصديق الآخر أصبح الشيخ هايل الذي يستفيد من ظاهرة الانتساب للتيار الديني، مع ما يميزه من نزعات غامضة، ومنها الإيمان بالجهاد في ساحات بعيدة عن فلسطين، بل إن نايف عينه في نهاية المطاف، أصبح رجل أعمال يجري صفقات مع الأمريكيين، في حين أن هناك من بقي يعيش وهمه كما (رؤوف) في وضع أقرب للمثالية الساذجة، هكذا تبدو مآلات الشخصيات بما تحتمله نزعة الرواية من تقويض منظومة زمنية حملت خطابات بدت رهنية قيم التصور لا أكثر، وهنا لا نتوقف عن قراءة تلك العلاقة الجدلية في بيان المواجهات، حين نقرأ شيئاً من تبادل الاتهام بين الضابط ومسؤول التنظيم الحزبي عند وقوع بعض الوفيات في الجامعة، فكل طرف يلقي اللوم على الآخر في كيفية التعامل مع المشكلة، فتبقى الأمور في حالة إرجاء، وكأن المرحلة هي المسؤولة عن هذا، علاوة على أنها قد تعاني قصوراً في وعي الفكرة، وهكذا تستهلك الرواية الكثير من متنها في بيان رسم ملامح ذلك الوهم، أو التّوهم الذي صبغ مرحلتين حساستين من تاريخ الأردن الحديث.

المعالجة السردية: الواقع والتاريخ

يمكن أن نقرأ إشارات سردية قائمة في وعي العقيدة السردية للكاتب الذي يسعى لأن يقيم قراءة تاريخية ذات بعد سسيولوجي ثقافي للقطاع الزمني، الذي تستند إليه الرواية، ولكنها مرتهنة للمكان، في المقام الأول، غير أنّ تتقصد عدة وظائف في إطار الحرص على تمكين ملامح واقعية النص، والحرص على تلك التفاصيل التي تختص ببيان تداعيات النكبة، وتشكّل الهوية الفلسطينية في الشتات عامة، والأردن خاصة، مع بيان الاحتضان لهذا الوجود، ومن ثم التشقق أو التآكل في هذين المكونين: التاريخي المجتمعي، بيد أن الخطاب السردي حرص على وضعه خارج سياق الوعي الشعبي أو الإنساني، كما تجسده أفعال شخصية أم عواد والجنرال المتقاعد، وغيرهما، إنما جاء هذا التوصيف على المستوى السياسي، في حين أن الخطاب يرسم تكويناً لفعل التشوه الذي طال النضال الفلسطيني، ولاسيما خروجه عن القيم أو المبادئ التي نهض عليها، أضف إلى ما سبق خواء بعض المقولات التي أسست لتشوه مستمر، بالإضافة إلى نقد بعض مفاهيم المقاومة الفلسطينية، وتقديم بعض الحوارات التي تهدف إلى ذلك، بالتوازي مع الإشارة إلى التوتر بين بعض الفصائل، ولاسيما عند عودة فواز للمعسكر، مع إشارات إلى تقدم الحركة الإسلامية، وإرهاصات وجودها.

لعل الرواية في جزء من تكوينها مسكونة بتمثيل التلاحم على مستوى التعالق الأردني الفلسطيني شعبياً، علاوة على رسم أخوة الدين بين المكونين المسيحي والمسلم، ونموذجها صداقة الطفلين: متري ونايف وعائلة أم عواد وعائلة سلمان الكمالي، وغير ذلك من الأطياف العرقية التي شكلت هوية الأردن الحديث بطابعه المتعدد والمستدام. كما أنها تحاذي توصيف الجدل حول مفهوم النضال، وما يمكن أن يحتمله من تنظير، ولاسيما عند محاولة الانضمام للفدائيين من قبل بعض الشبان المتحمس، في حين هناك أفكار تنهض على البحث عن سبل أخرى للمقاومة، تبعاً لكل سياق، أو تجربة خاصة، وهذا ما يحتمله الحوار لتمكين بعض الوظائف القائمة على رسم جملة من الدلالات.

مآلات أم نهايات؟

يبدو انسحاب نايف من التنظيم اليساري جزءاً من فاعلية نقد العملية التنظيمية، وما يشوبها من أبعاد ذاتية، بالتوازي مع فقدان الواقعية، كما اللمز من عوار الأيديولوجيا، فهل يمكن أن تبدو الأفكار جزءاً من الوهم، ولا سيما حين نضعها في سياق تطور الوعي مع الزمن الذي ربما يبدو جزءاً من أزمة الذات في بناء قناعاتها وأحلامها، وربما أوهامها، هل تعدّ الرواية مراجعة سردية لهذا الوعي؟ أو ربما هي رغبة في إطلاق سردية ذات بعد أقرب للشهادة، ولاسيما حين نقع في البحث عن العلاقة بين الذاتي والموضوعي، أم أن بنية الزمن قد تحدث اختراقاً في الوعي لتبدو الرؤية مغايرة؟ هكذا يمكن أن نقرأ ثنائية الأفكار والواقع، وما استجلبه هذا من جدل لم ينجز إلى الآن، فهل نحن أمام واقع أم تاريخ يجري إعادة تمثيله عبر اللغة؟ هكذا تبدو اللغة بوصفها قدرة أخرى لبناء المشهد، ولكن الأهم قيمة محاكمة الزمن، والذوات، كما الأفكار.

في ختام الرواية نواجه خلاصات دلالية، ولاسيما حين يتذكر نايف وهو في الزنزانة بعيد اعتقاله ما قرأته ياسمين من رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا»: «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله». العبارة تبدو أقرب إلى خلاصة لا تبدو واضحة من حيث إحالة مآلات الأمور، والمسؤول عنها، ليس ثمة حاجة للوم، كما ليس ثمة حكم نهائي لهذا، ثمة فقط الأفكار، ووهم الأيديولوجيات، وثمة التشوه في اتخاذ القرارات، كما ثمة إحساس بالخسران الذاتي والجمعي، ولكنه أيضا مقترن بالنهايات والتأملات لكل ما حصل، ولاسيما حين نعيد قراءة التاريخ، والحدث بوعي آخر، مع محاولة البحث عن إجابات لبعض الأسئلة، غير أن الرواية قد تبدو مسكونة بهذه الأسئلة أكثر مما تحاول أن تجيب عنها عبر نص سردي يمزج بين كلاسيكية التكوين، وشيء من البنى التقدمية على مستوى التّشكيل، ولاسيما من حيث اعتماد التناوب السردي في الإحالات الزمنية، وخلق علائق تكوينية وبنيوية موظفة بإتقان.

كاتب أردني فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي