«واقف في الظلام»: تجليات المؤثر والأثر

2022-07-23

جاسم عاصي

الانعكاسات

الاستدلال على المكان وخصائصه في أطروحة الشاعر عبد الزهرة زكي الموسومة بـ«واقف في الظلام» يتأتى من علامات أكدت على طبيعة المؤثر (المكان) الذي استقر داخله الشاعر إثر عملية اعتقاله قبل عام 2003. وأذكر التاريخ هنا للاستدلال أيضاً على استثناء الزمن وحراجته، الأمر الذي أدى إلى الكشف عن الخصائص المكانية من باب ضغط الزمن الذي كان ضمن دائرة ترقب الحرب. فثمة مؤثرين أحاطا بالنزيل، إن البقاء في المكان كان مقروناً بمعجزة قيام الحرب. وهذا قاد ــ من وجهة نظر المُعتقل ــ إلى التفكير بدمار الكُل، ما جعل الجزء مضمراً، والانقياد إلى الزمن الذي هو الحاسم في التخلص من المكان. إنه مكان طارد ومعاد، لا تتوّفر فيه أدنى خصائص الألفة باستثناء ما تم تغييره بسبب مجيء معتقلين آخرين إلى المكان.

من هنا نرى أن الكشف عن خصائص المكان تمت عبر عمل المؤثر، وهو ينطوي على مجموعة حراكات تتجدد بين حين وآخر ما حوّل الزمان في المكان إلى فعالية تستثير القلق والخوّف. الخوّف الذي يتطلب الحفاظ على الكتمان عن المعلومة والمراوغة ذات البُعد الذي يوفر القناعة لدى المحقق، لذا كان المؤثر أكثر قوّة على توليد المستجَد، وهو مستجَد حامل للإحباط والترقب السلبي لسمات هذ التدرج في الحياة داخل الزنزانة، وخارجها في غرف التحقيق والتعذيب الأخرى.

إزاء المستجدات هذه برز ــ وهو أمر طبيعي مرافق للحالة الاستثنائية والحرجة ــ التأثير واضحاً، وقد انعكس على توارد الخواطر عند السجين محفوفة بالقلق كما ذكرنا. غير أن المستجَد في تواليها هو التحسب للأمر من بين مجموعة احتمالات الغرض منها الافلات من المكان. وهي جميعها مصادرة للوجود الإنساني للسجين. فالحكم بعدد من السنين يعني ضياع مشروع الحياة. والإعدام يعني أكثر من ذلك بالنسبة لمن لهم علاقة أسرية معه. والصمود الذي قد يلاقي إزهاق الروح والجسد أمر فيه احتكام للموّت. أما الاعتراف بحقيقة الأمر (الرسالة) فهذا يعني الخلاص وفتح باب التهمة المخفية بإرادة والمنكشفة بالقسر، ما يوّلد سندا قانونيا للقاضي قد يؤدي بقرار ليس في صالح النزيل. كل هذا خلقه المؤثر (المكان) وما رافقه من إجراءات الوجود في معتقل (الحاكمية). كذلك أوصلنا هذا التخريج إلى أن كاتب سيرة الاعتقال قد أخذ بنظر الاعتبار خصائص المكان لا بوصفها لنا، بقدر ما احتكم إلى تأثيره المباشر وغير المباشر على بناء الشخصية وتغيّر مزاجها. إننا إزاء مجموعة صور وحالات إنسانية، سواء للمعتقل أو لمن رافقه في الزنزانة، أو ممن جاوروه في الزنزانات الأخرى، خاصة المقابلة لهم والتي ضمت امرأة لها قوة صمود استثنائية، كما خلقت العلاقات داخل الزنزانة نوعاً من المفارقة، لاسيّما وجود شخص إيراني وآخر مصري.

نستنتج من كل هذا؛ أن المكان يتعزز بوجود الإنسان، وهو الذي يُحدد طبيعته. وهذا ما عزز رؤية (زكي) إلى المكان كما سنرى عبر إقامة صلة مع مقتربات العلاقات الإنسانية طيلة وجود الجميع في الزنزانة وطبيعة العلاقة مع نزلاء الزنزانات الأخرى على كل الأشكال التي ظهرت عليها.

العتبة والمكان

العتبة هي «واقف في الظلام» ومن خلالها لا يتضح المكان مباشرة. فالظلام قد يرافق معظم الأمكنة، وربما لا يُشكّل الظلام خاصية دائمة عبر تسرب الضوء في زمن آخر. من هنا ننظر للعنوان بعين ثالثة، من خلال تفكيكه للوصول إلى المعنى المراد منه. وربما نتساءل: هل يُحدد العنوان المكان؟ أم هو إجراء للتضخيم؟ السؤال موصول في مفردة (واقف) وهي دالة على فعل الوقوف غير المحدد بزمن لكنه محدد بمكان. صحيح أنها تُحدد الوقوف في مكان ما. لكنها لا تُحدد للوهلة الأولى طبيعة المكان. لأنها كمفردة دالة على فعل عائم دون تحديد طبيعته. فزمنها قلق ومفتوح وغير محدد، فهو مطلق. وهنا تكمن وقفة القراءة. فالوقوف في المكان لو أخذ بمحمل الخاصية الذاتية، فهو فعل اعتيادي، يعني أنه وقوف لا يُحدده زمن ولا طبيعة متعلقة بقرينة كاشفة. أما (في) فقد قادت في اتجاه تخصيص.. بمعنى حرف الجر كان بمثابة المُحرك الدال على الاحتواء. فالوقوف غير مطلق وفق حسابات الدلالة، بل مُحدد بإشارة حرف الجر الدال على محتوى واحتواء في اللاحق، وهو الظلام الذي أشار إليه حرف الجر، لأن (في) كاشفة بما يلحقها لصفة المكان. وفعلاً تكتمل العتبة بمفردة (الظلام). وهنا قد نكون أمام معرفة بالمكان، من البديهة؛ أن لا يكون الوقوف إلا في المكان، لكننا نفاجأ بتورية أخرى تُخفي عنّا المكان دون أن تُلغيه، بسبب تركها كما ذكرنا (الأثر) وهو (الظلام) حيث نكون أمام ظاهرة مكانية مطلقة، اشتغل عليها اللوّن، وفي هذا الأمر وفي حدود العتبة تكمن قوّة العتبة. غير أننا ومن خلال سياق النص نتحقق من طبيعة المكان، لكن من منطلق العتبة أيضاً، فنحن ضمن مطلق غير مُحدد الصفة والصيرورة ــ بمعزل عن النص ـ وفي هذا تشكل محوّر شعري واضح، أن الصياغة للعتبة أريد لها أن تنتمي إلى الشعر وليس غيره، لذا كانت هذه الصياغة قد تكللت بالمضمر بدل القول المباشر، وبذلك اكتسبت شعريتها.

خلاصة القول إن عتبة «واقف في الظلام» مرتبطة بالغامض من الزمن المقبل. بمعنى كان في الإمكان أن تكون العبارة هكذا (واقف في الزنزانة أو في السجن) أو أي حالة أخرى دالة على المقبض، غير أن كاتبها أراد بها عدم تحديد المكان مباشرة أولاً، ثم عدم تحديد الزمان ثانياً. فالإطلاق دليل القلق والغموض والتوجس واليأس، وإلى غير ذلك من المشاعر التي تنتاب الإنسان لحظة وقوع الحدث.

الظلام هنا صياغة ذكية، لأنها تقود إلى تحديد المكان من خلال اقترانه بالاندثار والمحو والمصادرة، فما زال المكان مرتبط بالمطلق (الظلام) فهو يقود إلى الاضمحلال عن الوجود، أي أن المعتقل (زكي) وجد أن وجوده في سجن (الحاكمية) سيئ الصيت، يعني دخوله في المكان الذي لا يؤدي إلى الانفتاح، بل هو مغلق على نفسه، ومن الصعب الإفلات من قبضته، بسبب ما دار من المرويات حوّله، من هذا نجد أننا ضمن العتبة قد دخلنا في الصياغة مكبلين باللاجدوى ربما، ما يدفعنا الفضول إلى معرفة المكان المحفوف بالظلام، لأننا إزاء قراءة (مذكرات معتقل) وهي انتباهة أبعدتنا عن العتبة كمهيمنة قادرة على سحبنا في اتجاهها، ولأننا مصابون بدربة البحث، علينا فتح الصفحات التي نعتقد أنها قدرة على الكشف عن المكان (الظلام) وهنا لا بد من ذكر أن جملة العتبة قد صيغت بمهارة شعرية.

مفردات ما يُظهره المؤثر

كما ذكرنا سيكون تعاملنا مع المؤثر والأثر المتروك على الشخصية والزمان، وهذا المنحى في القراءة يلتزم جانب وجود المكان وخصائصه الذاتية ضمن حيّز الظاهرة المنتِجة لتلك الخصائص. وكما ذكرنا ما للظلام من قدرة، كوّنه دالة على دلالة المكان؛ فإن وجود الإنسان في المكان كشف سعته، وبالتالي طبيعته في ما يخص ألفته أو قسوته. ففي البدء كان مكاناً موحشاً وقاسياً. وفي هذا أشار وجود الإنسان فرداً في المكان وعدم تآلفه مع موّجوداته الجزئية (مصدر الماء، التواليت، مكان النوّم) التي بدت متقاربة قياساً للزمن الذي استغرقه وهو يكتشفها في الظلام، والذي أدركناه إن المكان (زنزانة) انفرادية، ثم اتسعت هذه الدائرة لا بسبب النقل إلى مكان أوسع، وإنما بقي المكان، فالذي اتسعت هي العلاقات الإنسانية، عبر توافد معتقل ثان وثالث ورابع وهكذا، بمعنى خلقت الألفة الإنسانية مجالاً لاتساع المكان. ومن هذا ندرك طبيعة شعور الشخص الأول الذي تبددت وحشته، كون الأمكنة بموجوديها مهما اتسعت رقعتها فهي لا تُبدد الوحشة النفسية القائمة بين المكان والإنسان، بل ما يُبددها هو الألفة داخله. في هذا المنحى تعامل الكاتب مع المكان، غير أنه ومن معه لم يُبددوا من قلقه يدّخر، وإنما كان أكثر قلقاً على المصير المنتظر، بل بقي هاجس الخوّف والترقب شاغل النزلاء، خاصة الكاتب منهم. حاول (زكي) أن يعمّق من إمكانية وجود المكان بتأثيراته عبر تمتين العلاقات بين النزلاء، على الرغم من اختلاف بعضهم في الجنسية أو مناطق وجودهم في الوطن. العلاقة نمت وتطوّرت وفق منظور المصير والخطر المشترك. إن تطور الحياة في المكان خلق عالماً آخر بعيداً عن التنافر والتباعد الذي يخلقه الجو العام والخاص في المكان (زنزانة في سجن) ذات تاريخ قاس هو سجن (الحاكمية) لذا كان استبداله معنوياً ضمن العلاقات المشيّدة داخله بين الحيوات. ولعل علاقة نموذج (محمد) كانت الأكثر وقعاً، لأنه يتمتع بامتيازات لقائه مع عائلته، وحصوله على مواد غذائية. ولأنه منحدر من منطقة شكلّت علامة شك بمرور الزمن بين مناطق البلد، بسبب السياسات الخاطئة التي دامت جرّاء بثها سموم التفرقة. الفيصل الذي أضفى على المكان وأفراده هو إشراك الجميع بطبق الغذاء، ما ترك آثاره الإيجابية على النزلاء.

نستنتج من كل هذا؛ أن المكان يتعزز بوجود الإنسان، وهو الذي يُحدد طبيعته. وهذا ما عزز رؤية (زكي) إلى المكان كما سنرى عبر إقامة صلة مع مقتربات العلاقات الإنسانية طيلة وجود الجميع في الزنزانة وطبيعة العلاقة مع نزلاء الزنزانات الأخرى على كل الأشكال التي ظهرت عليها.

تطوّرات شكل المكان

يتنامى شكل المكان في النص من خلال تنامي العلاقات بين الأفراد. فمن وجود المعتقل لوحده في الزنزانة الانفرادية يكون انعكاس المكان عبر تلمس جوانبه ومفارقاته، لاسيّما وأن المكان غارق في الظلام. والألفة معه عقدت صلة استثنائية بينهما. فالكشف خلق الطمأنينة مع ذاتية المكان، باعتبار أن ذاته كانت بمقابل ذات المكان. فكل منهما يحاول اكتشاف ذات الآخر، إذا ما أيقنا أن المكان في مثل هذه الظروف ضيّقة في طبيعة المكان والعلاقات الإنسانية، فهي ـ أي الذواتان ـ متحاورتان، فهما بمثابة شخصيتين ماثلتين أمام بعض. فالشخصية محاورة للمكان، والمكان يبادلها الحوار أيضاً، لأنه يصوغ الشخصية وفق حيّزه وحدوده. لذا فالتأقلم كان السمة المميّزة لما نقول، حيث خُلق حوار بينهما. وهذه السمة سادت في النص، مكتفية بالمؤثر (المكان) والأثر الذي يتركه على النزيل. وهذا ما طغى بطبيعة الحال حين أصبح النزلاء اثنين ثم ثلاثة وهكذا حتى اجتمع شمل عدد متنوّع الهوية داخل المكان نفسه (الزنزانة وبهذا اتسع المكان باتساع رقعة العلاقات داخله.

وهنا لا بد من متابعة تطوّر هذه العلاقة، وتسقّط الأثر ( نتائج الوجود في المكان ) الذي يوصلنا إلى المؤثر ( المكان) فهو ( أي الزنزانة) ثم السجن (الحاكمية) لم يبرحا ذاكرته، بل انطبعت صورة الغائب بقوة في ذاكرته، فهو يحاوره حتى بعد إطلاق سراحه مثلاً. هنا نبيّن قوة المؤثر على الشخصية (النزيل) : { حقيقة لم أستطع الفكاك، نفسياً في الأقل من أيام الحبس، أيام ( الحاكمية) سجن المخابرات الذي سيجد القارئ بعد قليل، أني قلت عنه في هذا الكتاب : ما زلت يومياً أمرّ ببناية ( سجن الحاكمية) ولا أستطيع إلا أن ألتفت في اتجاه البناية تلك التي تختصرها ذاكرتي بكل طبقاتها إلى مجرد زنزانة ورفقة تحقيق وقبو تعذيب }

هذه المقدمة في الكتاب، إنما تضعنا أمام امتداد تأثير المؤثر؛ لبشاعته واستثنائه عن كل الأمكنة لتي دخلتها الشخصية. وبذلك يضعنا بإزاء التنبؤ بما سيكون عليه الحال، خاصة المكان موّضوع بحثنا. وفي سياق انثيال ذاكرة الشخصية عن المكان بشكله العام، لا يُلغي الانطباع العام على الأقل: { إنَّ الصورة النمطية عن ( الحاكمية) لا ينفع في تغييرها القوّل العربي المأثور المكان بالمكين، من الصعب محو الذاكرة، لكن من اليسير تغيير صفة المكان، وسيكون مثل هذا التغيير حافزاً لتمتين ما يطمح إليه العراقيّون من قيّم جديدة تترك خلف ظهره بشاعات التعذيب والهزء بالكرامة الإنسانية وسحق الحريّات }.

ولكي يعكس طبيعة القسوّة التي يتحلى بها المكان العام ( سجن الحاكمية) يحاول نثر ملاحظاته السمعية عنه، لكي يكون على بيّنة من طبيعته، وفي الوقت نفسه يُخبر الآخرين عما عرف، وفي نهاية المطاف يدوّن في صفحات التاريخ وذاكرته ما كان قد عرفه بالحس والسمع والتجربة. فالكتاب مدوّنة لضمير المستقبل، وهو (صدقة) جارية للأزمنة القادمة..! لأنه وثيقة صارخة عن بشاعة الأنظمة المتعاقبة على البلد: { غموض ( الحاكمية) بقي يؤكد للناس أن الناجين منه نادرون. وعدة ما يلتزم هؤلاء النادرون صمتاً مطبقاً عن ظروف اعتقالهم، عما شاهدوه ولقوه، وستكون نجاتهم والحفاظ عليها هما الدافع الأكبر لنسيان ما حدث.أو لتناسي حياتهم في( الحاكمية). يوقع المعتقل قبل مغادرته ((الحاكمية)) بريئاً مطلق السراح، أو منقولاً إلى سجن آخر على تعهد بنسيان كل ما رأى وعرف وقرأ وقال داخل أسوار السجن.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي