بلاغة المحكي في السرد الواقعي في قصة « وماذا لو دقوا جدران الخزان؟»

2022-07-01

غزلان عتقاوي

البلاغة فن يجعلنا نتلون به عندما نعبر عما نحس به، فنقنع من نتواصل معهم بما نفكر به. هي فن تجاوز ما هو نمطي في استخدامه، خاصة في اتصاله بالمحكي، فلا يمكن لها إلا أن توصل لنا سردا واقعيا تارة يؤثر فينا وتارة يقنعنا بهمه لنتبناه. فكيف يكون السرد واقعيا في القصة الموسومة «وماذا لو دقوا جدران الخزان؟» لرضوان أيار؟

لعل القارئ لهذه المجموعة القصصية، سيقف متأملا عمق هذا السؤال «وماذا لو دقوا جدران الخزان ؟» الذي ينطلق من إشكال فلسفي لا يمكن الإجابة عنه بجواب واحد، وإنما يحتاج إلى مضامين كثيرة لتوفيَه حقه. وهذا ما أجاد به القاص من خلال مجموعته هذه، التي تتضمن سبع عشرة قصة، لكل قصة جواب مختلف، أو زاوية نظر سردية. فهذه المجموعة القصصية، تم اختيارها بعد حديث مطول عبرت عنه نقاط الحذف، والسؤال المتخذ في العنوان ما هو إلا استئناف لعملية الحكي للإجابة عنه. فالسرد جاء واقعيا عندما عبّر عن هم الإنسان العربي، وطرح التساؤل لم يكن عبثيا، بل كان مسقط رأس العملية السردية في جرد الأجوبة، بمعنى أن لكل قصة همها، وما تعيشه من عبث، فعندما استحضر القاص ما قاله غسان كنفاني: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ فهو أعاد محاورة هذا السؤال ليجيب عنه في أكثر من قصة، أو بالأحرى في أكثر من مأساة حقيقية يعيشها العرب عامة، والمغرب على وجه الخصوص.

استهل الكاتب المجموعة بقصة «شبابيك الأمل» وفيها استحضر البؤس الذي تعيشه فلسطين مع الإرهاب الصهيوني، وجسّده السارد من خلال الحلم بشخصية الرئيس الراحل عرفات، وعلى الرغم من أنه مجرد حلم، إلا أنه عكس الواقع اليومي لهموم المواطن الفلسطيني، في معاناته من الغزو الصهيوني، ومع ذلك فهو معلق بشبابيك الأمل.

أما قصة ماذا لو دقوا جدران الخزان؟ فقد سردت لنا واقعا آخر، في مكان يدعى «حانة هافانا» التي تجتمع فيها الطبقة البورجوازية، أقل ما يقال عنها إنها مثقفة في حالة سكر، ومن خلالها عبر السارد عن العجز الذي يشغل عقل المثقف أثناء تفكيره في الوضع المهمش الذي يعيشه، فيعيد التفكير، وكل القوى ضد هذا الكائن الذي فهم العالم، لكن حال الواقع لم يفهمه، فلم يجد سبيلا للخلاص من عذابه سوى الاستسلام للكأس ليفرغ فيها غضبه الوجودي، لعله يبوح بكل الخبايا التي تقتل أنفاسه وكرامته وهو في وعيه، ولعله أيضا يتخلص من ذلك الوعي الزائف الذي جعله عاجزا وصامتا أمام البؤس والهم اللذين يعيشهما المثقف العربي.

ما جعل هذه المجموعة القصصية أكثر بلاغة هو جردها لتفاصيل الأحداث بشكل مقتضب ومكثف، وبحثه عن المشترك الإنساني في الواقع العربي المنهوك بالتفرقة، المنهزم أمام العدو، سواء أكان هذا العدو مستعمرا أو سياسة فاسدة.

وهذا ما حاكاه السارد في قصة شخصية ياسين مدرس الخط العربي، فهو يمثل نموذج المثقف الغريب وجوديا، الذي استسلم للعبث في النظر إلى الأزمات، وكأن «حانة هافانا» مكان مصغر لحال العالم العربي بأسره وتخبطاته. والسؤال الذي تكرر طرحه «ماذا لو دقوا جدران الخزان؟ فمن بين أجوبته هو معاناة الإنسان العربي من الأنانية المتجذرة، والتفرقة بين الشرائح المجتمعية التي اختارت الصمت على بؤسها ولم تتوحد للثورة عليه. والسرد هنا على الرغم من أنه جاء مقتضبا، إلا أنه كان بليغا وواقعيا كما جاء في قصة «بغلة القبور» التي تحكي عن معاناة أخرى، استهلها السارد بشخصية الطفل اليتيم الذي اتخذ المقبرة منزلا، أمام انعدام الضمير وغياب القيم التي دسها الكاتب في شخصية أخرى (زوج السعدية أخت الطفل اليتيم ) مثل نخبة من سماسرة الانتخابات التي تتلون مع موجة مصلحتها وتبيع المبادئ والقيم مقابل المال.

كما عكس السارد الواقع المغربي من خلال تغييب المجتمع بالشعوذة والخرافات والأساطير الخرافية، ليصير المواطن تائها عن الحقيقة، مثل ذلك قصة «بغلة القبور» التي يبتلعها ضريح «سيدي موسى» فاختيار السارد حكي تفاصيل هذه الأسطورة، بمثابة إحالة على ما تعانيه شريحة كبيرة من المجتمع المغربي التي تبرر عجزها بأساطير أبطال قوى خارقة، وهذه حال المجتمعات العربية التي تحب تداول الخرافات، فذلك الجني الذي راجت قصته في الأرجاء، وأخاف الناس، لم يكن سوى «أبريك» المناضل السياسي الهارب من الدرك، لأنه دافع عن حقه في الصحة، وكان الرد هو الاعتقال فلم يجد ملجأ سوى المقبرة. فتسليط الضوء على شخصية «أبريك» كان أمرا حتميا لاستحضار صوت الأمل والضمير الحي، الذي اختار الثورة على الأوضاع المزرية، لكنه اختار القتال وحده واليد الواحدة لا تصفق، لذلك اختار السارد ضمير المتكلم في سرد قصصه، ليكون أكثر إبلاغا وقربا من شخوصه وهمومها، التي لا تنفصل عنه، وكأنه يمارس عملية البوح والتداوي بالسرد. وهذا ما سماه بالواقعية، لأنه مجرد من مساحيق التنميق اللغوي، اختار لغة بسيطة يفهمها العامة، لأنه يعبر عما يؤرق الإنسان في بلده.

ما جعل هذه المجموعة القصصية أكثر بلاغة هو جردها لتفاصيل الأحداث بشكل مقتضب ومكثف، وبحثه عن المشترك الإنساني في الواقع العربي المنهوك بالتفرقة، المنهزم أمام العدو، سواء أكان هذا العدو مستعمرا أو سياسة فاسدة، فالحال نفسها، والمواطن عينه يعيش الهم والغم، ولا منقذ له سوى التمسك بالأمل.

كاتبة مغربية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي