معلقات جميل ملاعب مخطوطات حبّ لا يزول

2021-12-09

مواد أولية مُستقاة من الطبيعة وسحرهاميموزا العراوي*


تواصل صالة “جانين ربيز” البيروتية كعدها في كل عام الاحتفاء بالمنجز الفني الجديد للتشكيلي اللبناني جميل ملاعب، وذلك من خلال معرضه الجديد المعنون هذه المرة بـ”لبنان، الجمال والثقافة” الذي يستمرّ عرضه حتى الثلاثين من ديسمبر الجاري.

والمعرض يشمل العديد من اللوحات معظمها بأحجام كبيرة ومشغولة على القماش والخشب المصقول، حيث تطغى عليها الألوان الترابية والرملية الناصعة وإن عمد الفنان الشغوف بالألوان إلى استخدام كل الألوان في تفاصيل لوحاته لتبدو وكأنها مواد أولية مُستقاة من الطبيعة أكثر من كونها مواد تلوينية.

بعيدا عن السأم والأسى

في معرضه “لبنان، الجمال والثقافة” يبثّ الفنان جميل ملاعب أجواء تفاؤلية مرتكزة على عناصر واقعية وقادمة من حقيقة المشاهد اللبنانية اليومية التي لم تستطع الأزمات الهائلة والتدهور الاقتصادي السريع أن تمحيها، ولا أن تجعلها صورة غائمة من ماض سحيق.

وهذا الحسّ التفاؤلي ليس بجديد على ملاعب حتى وهو في خضم الحرب اللبنانية من خلال معرضه الذي خصّصه للحرب الأهلية الذي زخر بمشاهد طغى عليها الأسود والأبيض، ومع ذلك لم يكن إلاّ رساما لمشاهد متفائلة بالرغم من عنفها العابر، إن صح التعبير.

وفي حين نظر ولا يزال البعض ينظر إلى أي فنان تشكيلي لم يجسّد المآسي التي يعاني منها بلده، كفنان غير معني إلاّ بذاته وبأهوائه، يضرب الفنان عرض الحائط تلك الافتراضات الواهية ليقول إن رسم الجمال والحب والطبيعة واللحظات اليومية هي في حدّ ذاتها موقف ضد الاستسلام لسوداوية الحاضر، إذ يصرّ على اعتبار سوداويته عابرة، لأنها طارئة ولا تمت إلى طبيعة الحياة، ولا إلى جمال لبنان العصيّ على الموت.

هذه الحياة، ينظر إليها ملاعب نظرة صافية مأهولة بالدهشة مثله كمثل صبيّ نزق يشتعل موهبة ولا يشبع من الألوان ولا من ابتكار قنوات جمالية لتصريفها ولتأسيس منطق وجودي يليق بها يقول “لتحيا الحياة” كما في معرض سابق له عنونه بـ”حياة تستحق العيش”.

ويأتي الحق في الحياة في جميع ما هجس به الفنان، وذلك منذ بدايات سيرته الفنية وصولا إلى اليوم وإلى معرضه الشامل والزاخر هذا بنبضات الحياة المُكثّفة.

جميل ملاعب لا يزال يرسم الزمن بألوان الدهشة

وبالنسبة إلى الكثير من متابعي أعماله، أول ما يأتي ذكر اسم الفنان حتى تجيء صور الطبيعة الغناء إلى الذاكرة. الطبيعة بدفئها حتى في عزّ أيام البرد المكسوة بالثلج. ثم تجيء صورة الإنسان إن كان رجلا أو امرأة أو طفلا. وشكل هؤلاء جزءا لا يتجزأ ممّا تعني الطبيعة للفنان: الحياة بكل ما تحمل من فرح وأوجاع وتجدّد بعد كل نهاية.

أما في معرضه هذا، فيظهر “إنسان” الفنان أساسيا في الأعمال وقد اكتسب ملامح الطبيعة بأحوالها الباطنية: الحزن والفرح، والعمل والاستراحة، والسكون والراحة، والانهماك والتحلّل من الارتباطات الاجتماعية والانغماس فيها، عبر التلاصق والتراص بين الشخوص المرسومة التي في تعاضدها وتلازمها لا تتخلى عن “فردانيتها” ولا عن انشغالها بتفاصيل حياتها الشخصية.

لعل أكثر ما يميّز هذه الأعمال الجديدة هي قدرة جميل ملاعب وبراعته، التي راكم فصولها لأكثر من ثلاثين عاما، في الدمج ما بين الفن التشكيلي البحت والفن التجريدي. فقد صهرهما وصاغ بهما مشاهد منمنمة تبدو أنها تجريدية عن بعد وهي ليست كذلك عن قرب. كما تمكن من تقديم أعمال ثلاثية الأبعاد كما في تلك النصب الخشبية المرسومة التي نصبت في وسط مساحة الصالة هي في الآن ذاته محملة بمشاهد مسطحة عن الحياة اليومية ومقترنة بأخرى تتكوّر وتتدوّر وتلقي بظلالها على ما يحيط بها لصيقا ومتماسكا تشكيليا معها.

دهشة الحياة والرسم
لطالما كان الفنان سرديا بامتياز، وهو اليوم كذلك أكثر من أي يوم مضى. المئات من القصص صبها الفنان في الأعمال على القماش وعلى الخشب. سرد بصري شيّق لدقائق الحياة اليومية استحقت منه دائما أن تكون مواضيع للرسم بالنسبة إليه.

دقائق الحياة اليومية يكثفها اليوم دون اقتصاد ويراكمها مبتكرا أشكالا خيالية “مُقنّعة” وأخرى واقعية. أرفق بعض هذه الأشكال بكلمات خطها بيده وبكتابة تواريخ هي في حد ذاتها مادة فنية استحقت أن تشغل أماكن من لوحاته وليس فقط أن تكون مجرّد توثيق وتأريخ بارد يوضع خارج العمل الفني للإشارة إلى زمن إنجاز لوحة دون أخرى.

جميل ملاعب لا يزال يرسم الزمن بألوان الدهشة

جميل ملاعب يسرد ويسرد ولا يكتفي ويشحن أعماله بألف تفصيل وتفصيل تماسك واشترك مع التفاصيل الأخرى، ليظهّر الحياة في تداخل بصري مُبدع أصبح معه السرد دون بداية ولا نهاية. ففي أي موطن من العمل يمكن أن يستنبط المُشاهد الختام ومنه أيضا يمكنه أن يبدأ الحكاية.

كل هذه الحياة التي يصوّرها الفنان التي انغمس بها وأحبها هي الحياة اللبنانية في القرى وأيضا في بيروت، حبيبته الدائمة الغاصة بصورها الأكثر فورانا وغنى، والأعنف تناقضا، وأوجاعا. ومن ناحية أخرى تشكّل عناوين الأعمال تأكيدا على هذا الموقف الشخصي للفنان غير القابل للتبدّل مهما بلغ السأم والأسى. ومنها العناوين “أنا أحب بيروت” و”لبنان مملكة وأرض السموات”.

من رأى الفنان يرسم وكيف يرسم سيرى كيف استطاع ملاعب أن يشتغل وفق عدستين بتلقائية وخفة فريدة. فهو حين يقترب جدا من لوحته يرسم العوالم الدقيقة وكأنها مشاهد مفتوحة ومكتملة وحين يبتعد ليرسم عن بعد يبدو مشغولا بالتفاصيل. أما الأمر المشترك بين هاتين الحالتين هو تلك الدهشة التي لم تفارق الفنان وهو أمام لوحته، وأمام الحياة.


*ناقدة لبنانية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي