عودة الفلسفة: لِمَ لا تزال فلسفة القدماء تحاورنا؟

2021-11-06

ترجمة: ليلى عبد الله

بعيداً عن الاقتصار على مجموعة من النظريات التي وقع تجاوزها، أثار الفلاسفة القدماء مواضيع مُهمة، خاصة في ما يتعلق بأفضل طريقة للحياة.

مُقارنة بالمُجتمعات الحالية كانت الحضارة الإغريقية تعاني من العنف والتعصب وعدم المساواة والدجل والشعوذة. وكان سُقراط من أبرز الوجوه التي تم اتهامها بإفساد الشباب؛ فأَجبر على شُرب السم، بسبب مُحاضرة ألقاها في مكان عام، حيث شكك في مذاهب ومُعتقدات مُعاصريه.

على امتداد الحضارة الإغريقية تعيّن على الفلاسفة الأوائل أن يواجهوا، رغم حرية التعبير النسبية وبشكل عام، قيما أخلاقية وسياسية، بعيدة كل البُعد عما نعيشه حاليا.

وهذا جلي في كتاباتهم، فغالبا كان حدسهم في محله، وكانوا السباقين في ذلك، فبعض أفكارهم كانت مُتحررة، بل جريئة تفوق في جرأتها مواضيع من عصرنا الحالي، وكان هذا جليا من خلال كتاباتهم، ولعب الحدس الجيد دورا مُهما، ففي بعض الأحيان تفوقوا على مُعاصريهم وتجاوزت أفكارهم المعايير الأخلاقية الحالية.

أما من ناحية أكاديمية فلم يكن الأمر جيدا دائما، حيث امتزجت العلوم والدين وعلم الأساطير، لتفسير الظواهر الفيزيائية والبيولوجية، لدرجة أنه لا يمكن إطلاق صفة «علمية» على هذه النظريات اليوم، كذلك بالنسبة للعلوم الاقتصادية فالمُجتمع لا يزال فتيا مُغذى بشكل مُكثف بالأحكام المُسبقة والمُعتقدات الزائفة.

إذن ما أهمية الغوص في الفلسفة القديمة الآن، إن لم يكن للمُتعة الفكرية؟ لماذا لا نزال نحتفظ برصيد مُهم لدى الباحثين الجامعيين، والعلماء والجمهور المُتلهف للحكمة على حد السواء؟

المشاكل الأبدية

في شرح أولي يجب التمييز بين الإجابات والأسئلة، حتى عندما تبدو الأولى ضبابية تكون الثانية ناجعة: فما هو العالم؟ وما هي الطبيعة الحقيقية للأشياء، بعيدا عن الانطباع الأول الذي تتركه فينا؟ وهل الكلمات التي نستعملها لوصف هذه الأشياء تعكس جيدا الحقيقة؟ وكيف يمكننا التمييز بين الصواب والخطأ، والحقيقة والزيفّ؟ مثلما وضح أرسطو في «الميتافيزيقا» فالفلسفة القديمة هي في البداية مُساءلة الأدلة، فن الدهشة أمام الأشياء، التي لم تعد تدعو لدهشة مُطلقا.

شكك حُكماء مثل بيتاغور، وطاليس وديموقريطوس في مُلاحظاتهم ومُعتقداتهم، حتى أنهم اقترحوا إعطاء الأولوية لتحاليل أكثر تجريدية؛ فبعض الأشياء لا تُرى بالعين المُجردة، لكن المنطق يفرض وجودها مثل الفراغ، واللانهاية، والذرات.

هذه الطريقة من التفكير أعطت، بشكل ميكانيكي، وضعا خاصا للغة، لكي تُمكننا من فهم هذه الحقائق غير المرئية. وبما أن الكلمات مصدر لتظليل الإيهام؛ توجب إيجاد قواعد صحيحة للخطاب: أولا تفادي التناقض، والإقرار بالعواقب ونتائج الأفكار التي نتبناها.

ساعد ظهور الفلسفة في تطوير نظرية المنطق؛ حيث قام قدماء اليونانيين باتخاذ ثلاثة أفرع للبحث، لا تزال قائمة حتى الآن، أولها فيزيائية، التي تتمثل في السؤال التالي: ما هو إكس؟ الثاني المنطق: في أي حالة يمكننا القول: إن إكس مساو لإكس؟ وثالثا أخلاقيا: ماذا نفعل مع إكس، وكيف نتعايش معه؟ كانت هذه الأسئلة من أهم النقاط النظامية لدى أفلاطون، كما قال لنا ألفريد نورث وايتهيد في كتابه «مُحاكمة وحقيقة» سنة 1929، وأين يتلخص كل تقليد فلسفي غربي في «سلسلة حواشي أفلاطون».

بعيدا عن مجالنا الثقافي، أورد كارل غاسبر في كتابه «أصل وروح التاريخ» 1949، أن هذه التساؤلات ظهرت في أماكن عدة في القرن الماضي، عندما نتساءل عن نشأة البوذية، أو الهندوسية، أو الزرادشتية مثل التاريخ القديم فترة محورية، إذ أصدر فيها كتابه «الأسس الروحية للبشرية» حيث قال فيه: إن «حداثة هذه الحقبة هي أن الإنسان أدرك كُلًيته من الناحية الذاتية وحدوده الخاصة.

إنه أمام تجربة العالم الرهيب في مُقابل عجزه الخاص. فطرح أسئلة مُهمة وحاسمة أمام الجحيم المفتوح، خلال هذه الفترة طُوِّرت الأصناف الأساسية التي بموجبها ما زلنا نفكر اليوم».

افهم حتى تتصرف

بعيداً عن طُرق التفكير، هناك طرق للعيش، فبالنسبة لفيزيائي لن يكون ذا معنى أن تكون غاليليا اليوم؛ فالتطور العلمي عزز ظهور نماذج جديدة. الشيء نفسه بالنسبة لعلماء البيولوجيا والمُهندسين، وعلى عكس ذلك يمكننا العيش بالحس الأفلاطوني في القرن الحادي والعشرين.

يمكننا يوما بيوم تطبيق مبادئ الفلسفة الرواقية، والأبيقورية للمُشككين، أو حتى الساخرين، لكن كيف يمكننا تفسير هذا الاختلاف؟ بكل بساطة يرى القدماء أن القضايا الأخلاقية لها الأسبقية على الأفكار المُجردة.

قال المؤرخ الفرنسي بيير هادو في كتابه ما هي الفلسفة القديمة؟ الصادر سنة 1995: «لم يكن الفلاسفة الأوائل من الإغريق أو الرومانيين من صُناع الكتب؛ فالهدف من الكتابة لهؤلاء الفلاسفة هو تغيير نظرتهم للعالم لأنفسهم ولمشاعرهم؛ حتى يتمكنوا من تعديل حياتهم الخاصة، حتى تخميناتهم الأكثر تجريدية (كالفيزياء والميتافيزيقا وعلم الفلك) كانت موجهة للفهم من أجل فعل مُتقن وليس فقط المعرفة، من أجل المعرفة».

يمكننا الحُكم مثلا أن ذرية الأبيقوريين باطلة بسبب آخر النتائج في ميكانيكا الكم، غير أن مفهوم الحياة الذي يرافق هذه النظرية ما يزال ذا معنى: فالإنسان ليس إلا كتلة من الذرات نتاج الصُدفة في عالم لا نهائي دون أي امتياز أو مركز خاص. نقدت الأبيقورية الغرور والأنانية والرغبات غير المنطقية التي حاول أتباعها تطبيقها.

بشكل عام في العصور القديمة، الانضمام إلى مدرسة فلسفية كان مثل الانضمام إلى نظام لاهوتي، وافق أتباعه على العيش داخل المُجتمع بتوجيه من مجموعة من المُفكرين، وإخضاع أنفسهم لمبادئ ديانتهم، ولم تهتم الفلسفة بأفكار كالتعليم والصداقة والحب.

شرح أفلاطون، الذي يُعتبر عمله الكتابي أحد أهم أعماله بالنسبة لنا، في «رسالته السابعة» أن هذه النصوص لا تُعطي إلا نبذة فقيرة عن فلسفته، وقال بيير هادو: «حول ما كان موضوع انشغالاته فهو لم يكتب أبدا كتابا؛ لأن المعرفة لا يمكن صياغتها بأي شكل من الأشكال مثل المعارف الأخرى، لكنها تنبع من الروح. عندما كان لدينا إلمام طويل بالنشاط الذي يتألف منه، والذي خصص له حياته».

التدريبات الروحية

حسب الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا بالودي، قام القدماء بترتيب الخطاب الداخلي، والشفوي، والمكتوب بشكل تفاضلي؛ فكان الأولان فقط خاصين بروح باحثة عن ذاتها. كانت وظيفة هذه النصوص في نظرهم الحفظ والنشر، بل يمكننا القول، إنها لا تتعدى مُلاحظات بسيطة، عملية تقييم تُلخص المنهج البحثي والنتيجة النهائية والمرجوة. غير أن الفلسفة الحقيقية ستبقى دائما «حياة فلسفية» بما في ذلك ما يُطلق عليه بيير هادو في كتابه «الفلسفة طريق الحياة» بالتدريبات الروحية: التأمل والتحاور.

هذا الكم من المُمارسات من أجل أن يتغير ويعيش في وفاق مع أفكاره، وفقا لأفلاطون، جاءت هذه المُمارسات حتى توقظ الجزء العقلاني من الروح، واستعادة النظام لرغباتنا في تحقيق «شفاء الروح» وتجريد أنفسنا من مُمتلكاتنا بكل ثقة، مثلما قال المُشكك بيرون: العيش «ككلب» ينام في ركن من الطريق، وفي ظل برميل لكي لا يعتمد إلا على نفسه، مثل الصورة الساخرة التي أوردها ديوجين سينوب.

بالتالي فإن صحة الفلسفة ليست ثابتة بمقياس شعبيتها، اعتمادا على نظرة مُجتمع مزدوجة أو قوة تفسيرية، لكن في ضوء حياة رجل حكيم جعلها ملكه الخاص.

هذه الرؤية يمكن نعتها بالتقادم: حتى عندما نختلف مع أخلاقيات الحياة، أو مثل التيار الفلسفي القديم، ومن المُسلّم به عامة أنه يجب أن نعيش وفقا لمُثلنا العليا حتى وإن كان صعبا وغير مُمكن؛ فغالبا ما كان العمل على الذات صعبا وقاسيا وأحيانا مُخالفا لاهتماماتنا المُباشرة، أو ما يمليه علينا المُحيط الذي نعيشه من أجل مواءمة الفكر والعمل. بتشجيعنا على القيام بذلك ودون إعطائنا إجابات جاهزة تظل الفلسفة القديمة بمثابة تجديد أبدي.

 

مجلة علوم إنسانية لشهر أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2021

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي