الفلسطيني نصر عبدالعزيز يشكّل من عاطفة الأمومة وطنا بديلا

2021-10-26

الطريق طويل.. لكن الخلاص أكيد

عمان - تنهل اللغة البصرية للتشكيلي الفلسطيني - الأردني نصر عبدالعزيز من تجاربه الحياتية المتنوّعة وتنقلاته بين بلدان ومناطق جغرافية متعدّدة، ويمكن تلمّس أثر ذلك في طبيعة الألوان التي ينفّذ بها أعماله والأفكار التي يطرحها من خلالها والمضامين التي تنطوي عليها، خاصة ما يتصل بعلاقة الإنسان بالمكان.

وقد تنقّل الفنان ما بين عمّان وموسكو والقاهرة وبغداد ودبي ولندن، تحقيقا لرغبته في تطوير التجربة الإبداعية اللونية التي بدأها منذ الصبا، إذ كان قد تعلّق بالرسم والدراما والموسيقى، وواظب على حضور الجلسات الصوفية والفعاليات الفنية الشعبية، ما جعل رسوماته بعد نضوج تجربته، تقارب الخيال وتعلي من قيم التحرّر والانطلاق.

ويلاحظ المتأمّل لما أنجزه الفنان المخضرم في مشواره الطويل أنّ مفردات أعماله مستوحاة من واقعه المعيش ومن بيئته الشعبية التي تشبّعت بها روحه عبر عشرات السنين، فسجّل ذكرياته عن الوطن من خلال مخزونه البصري وجسّدها بأسلوب تعبيري رمزي من خلال اللون والخط، حيث نجح في تنفيذهما على المسطح الأبيض برقة وعذوبة.

الجمال يحضر متفردا في لوحات عبدالعزيز.. تجمّلي ليكون الوطن أجمل

وتميّز عبدالعزيز بأسلوبه المنسجم، وذلك من خلال ما طرحه في أعماله من مضامين ملتزمة بقضية الإنسان المتطلع إلى الحياة، وهنا وظّف الفنان بعض العناصر وركّز بشكل خاص على عنصر الحصان، وذلك لتفعيل الحدث وليكون شاهدا على الانكسارات والانتصارات والأفراح.

وتغيّر دور الحصان وفعله وموقعه ومعناه من لوحة إلى أخرى، ولم يكتف عبدالعزيز بعرض هذا الرمز بل أضاف إليه رمزا آخر وهو الطفل الذي يرمز للأمل والاستمرارية من أجل غد أجمل وأفضل للأجيال القادمة.

ولا يتوقّف الفنان عند هذه العناصر فحسب بل حفلت لوحاته بالكثير من العناصر والمفردات كالطيور والذئاب والجنادب والصبار والقمر والبوم وأخرى معمارية كالأبواب والنوافذ والستائر والمرآة والمناضد والأرائك والنحاسيات وأدوات التجميل وغيرها من العناصر التي يستوجب وجودها ضمن السياق التصويري المطروح. وهو في ذلك يقدّم فلسفة تتغيّر فيها حياة الأشياء بتغيّر علاقاتها مع الفضاء المحيط بها.

كما اهتم الفنان بالمرأة وكفاحها، لذلك تتكرّر في أعماله بشكل لافت، وهي وحيدة غالبا إلاّ في بعض اللوحات التي يكون لها فيها دور وفعل مع أطفالها وأشيائها الخاصة. وقد وصل في اللوحات التي تناول فيها المرأة على مسطحات لوحاته إلى تعبيرية خاصة ومتميّزة، حيث ربط وبشكل مقنع ومحْكم بين المرأة وجماليات الفولكلور الشعبي من أزياء وزخارف وأدوات مستخدمة في الحياة اليومية.

ولعل قراءة تحليلية لهذه اللوحات نجد أنها عكست حالة إنسانية عبر أكثر من وسيلة، فحركة النسوة وتعبيرات وجوههن وما تعكسه من حزن وترقّب تساعد في الكشف عن المحتوى، ومن يراقب أعمال عبدالعزيز يكتشف أن حضور المرأة الطاغي بوحدتها وانتظارها، وعالمها المشحون يقابله حضور خجول للرجل.

وفي الأعمال التي تناول على مسطحاتها البورتريه استطاع الفنان أن يكثّف التعبير فيها ويغوص في الواقع اليومي المعيش بحثا عن معنى، ويجد هذا المعنى/الأمل في وجوه النساء الشعبيات اللواتي حدّد هويتهنّ عبر زيّهنّ المطرّز بلون الأرض والدم، وما يلبسن من حليّ.

ويؤكّد الفنان في هذه الأعمال على القيمة الإنسانية للموضوع، ويفصح عن تعاطفه مع قضايا المرأة المختلفة التي قدّمت في صياغة فنية تشكيلية اتسمت بجمالية أصيلة، سواء من حيث التكوين العام للوحة، أو طريقة المعالجة، أو نوعية الألوان المستخدمة.

وغالبا ما يصوّر الفنان أمّا تحتضن طفلها أو تمسك بيده، أو يقدّمها في مركز اللوحة محاطة بالأطفال، وتأتي هذه المشاهد ضمن أجواء تحيل المُشاهد إلى الأماكن المقدسة، وبرموز تعبّر عن الكثير من المعاني، لعل في طليعتها التعبير عن احتضان الأرض (الوطن/فلسطين) للإنسان الطفل، بالإضافة إلى تعزيز قيم العاطفة والارتباط والانتماء والمحبة.

امرأة تحتفي بوحدتها وانتظارها

ولا يُخفي الفنان الدور الذي قامت به متاحف موسكو في إغناء مفرداته الفنية، فقد تعلّم الكثير من لوحات الفنانين الكبار، وحظي بفرصة معاينة تلك اللوحات عن قرب، ورؤية تفاصيلها النابضة بالحياة، وتبلور لديه على إثر ذلك مفهوم واضح حول “الرشاقة في الفن”، وكيفية الموازنة بين الشكل والمضمون لتقديم عمل جمالي في مظهره وعميق في طروحاته.

كما لا يُخفي تأثره بالفن الفرعوني، خاصة في منطقة الأقصر التي تضمّ أصول ذلك الفن، فعبر جولاته للتعرّف على الفنون قديمها وحديثها، أدرك عبدالعزيز أنّ الزمن في الفن لا يمكن الإمساك به، بل إن هذا الأمر ليس ضروريّا، وحجّته في ذلك أن الفنون التي أُنجزت قبل الآلاف من السنين ما تزال قادرة على التأثير في الناس وملامسة وجدانهم وطرح موضوعات إنسانية عميقة تهمّهم.

وقد شكّلت هذه القناعة لديه مدخلا فكريّا لفهم الفنون الشرقية عامة والإسلامية خاصة، وهذا التأثّر يَظهر في لوحات الفنان من خلال التفاصيل التي يُبرزها على السطح، كتطريز الأثواب التي تلبسها النساء والذي يقوم على أشكال هندسية وزخرفية، وكذلك من خلال رسوماته للخيل العربية وتفاصيل الأبنية والعمارة، حيث تبرز القباب والمآذن والأقواس.

وتميل ألوان عبدالعزيز في غالبيتها إلى الترابية والألوان الغامقة التي تمنح اللوحة عراقة وقِدما، وهو في كلّ ذلك لا يتوقّف عن رصد تفاصيل الحياة الشعبية في فلسطين، مانحا هذه التفاصيل بعدا رمزيا، لهذا تبدو لوحاته غنية بالمشاهد الدرامية، من مثل انتظار المرأة للفارس القادم على حصانه كي يحرّرها، وانهماك المرأة في تطريز ثوب شعبي بدقة وانتباه، وارتداء الطفل الكوفية وهو يصوّب سهمه نحو العدو. وفي جميع هذه اللوحات/المشاهد ثمة هرمونية موسيقية نابعة من تناغم اللون مع الشكل، والخلفيات الهادئة والإيحائية للّوحات التي تميل إلى الواقعية التعبيرية.

ووُلد نصر عبدالعزيز في الخليل بفلسطين عام 1941، ودرس الهندسة المعمارية في موسكو، ثم التحق بمعهد القاهرة لدراسة الفنون الجميلة عام 1963، ثم درس فن الصور المتحركة في لندن عام 1970، وحصل في عام 1980 على دبلوم الدراسات العليا في الإخراج السينمائي من المعهد العالي للسينما في القاهرة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي