حوار هايدغر مع الشعر: نداء الشعر.. نداء الكينونة

2021-10-02

مارتن هايدغر

 محمد الديهاجي*

علينا أن نتفق أولا على أن المشروع الفلسفي الوجودي لدى هايدغر، قد جاء كرد فعل على فلسفة المعرفة (الأبستمولوجيا) كمبحث خاص.

لقد انتهى هايدغر إلى أن الفلسفة التقليدية، منذ أفلاطون إلى حدود الفلسفة الحديثة، أخطأت في طرح السؤال الجوهري المتعلق بالكينونة. فبدل التساؤل عن الوجود/الكينونة في ذاته، انشغلت هذه الفلسفات بما هو كائن، ما جعل سؤال الكينونة يتعرض للطي والنسيان.

يقول هايدغر: «ما هو الوجود؟ وهل من اللائق أن نطالب الوجود الإفصاح عن ماهيته؟ إن الوجود لم يتعرض للمساءلة أبداً، وبما أننا نعتبر الأمر بديهياً، فإن هذا الوجود لم يؤخذ بعين الاعتبار، إنه قائم داخل حقيقة دون قاع. منسي منذ مدة طويلة» (عن «في الحاجة إلى إبداع فلسفي» لعز الدين الخطابي وإدريس كثير).

لكن ماذا يقصد هايدغر بالكينونة أو الوجود؟

هايدغر والكينونة

هناك صعوبة كبيرة في استخلاص تعريف محدد لمفهوم الكينونة عند هايدغر. لكنها، بشكل عام، تعني تقريبا الخلفية التي تنير الوجود، وتجعله متجليا للعيان بوضوح. إن الكينونة هي الظهور بعينه، ذاك الذي يظل محجوبا داخل ما هو كائن. ومن هنا فهي تعني الخفاء والظهور، الاحتجاب والبروز.

ومن أهم المفاهيم المؤثثة للفلسفة الهايدغيرية والمرتبطة بالأطروحة السابقة، نجد مفهوم «الدازاين» Dasein، وهو يفيد الوجود الإنساني هناك، أي في العالم. يقول «إن الدازاين هو كائن ليس فقط يعرض لنا من ضمن كائنات أخرى، بل هو على الأرجح متميز من ناحية أنطيقية بأن الأمر عند هذا الكائن إنما يتعلق في كينونته بهذه الكينونة ذاتها، إن فهم الكينونة هو ذاته تعين كينونة خاص بالدازاين» (مارتن هيدغر « الكينونة والزمان»).

إن الدازاين، بهذا المعنى، هو الوجود الإنساني، لا بما هو ماهية، لكن بما هو كينونة وصيرورة الإنسان في الوجود. لذلك فإن هايدغر يستبدل سؤال (ما الإنسان؟) بسؤال (ما هو الإنسان؟)

هايدغر واللغة

لما كان سؤال الوجود بكل هذا التعقيد والالتباس، فإنه ليس بمقدور العلم، حسب هايدغر دائما، أن يجيب عن سؤال الكينونة، فقط لأنها نداء وعلينا أن نصغي إليه من خلال اللغة لأنها «بيت الوجود». إن اللغة هي التي تتكلم بنا، لا نحن من يتكلم بها، فهي التي تعمل على إظهار الأشياء عندما تسمي هذه الأشياء.

واللغة بذلك، تعمل على إظهار الوجود الذي ينادي ويسأل عبرها. إنها «بيت الكينونة لأنها من حيث هي القولة لحن الخصوصية» (مارتن هايدغر: «كتابات أساسية»). لقد رفض هايدغر، رفضا مطلقا، المقولة الفلسفية القائلة «الإنسان حيوان عاقل» مستعيضا عنها بمقولة أخرى هي «الإنسان كائن لغوي» ولأنه كذلك، عليه أن يُدرك كينونته بوصفها موجودا داخل الكون.

إن اللغة، بقدرتها على الكشف والحجب وعلى الإبانة والإخفاء، فضلا عن قدرتها على ابتكار الرموز، تستطيع أن تحول المدركات إلى محسوسات، والعكس صحيح. بناء على ذلك فإن الوجود لا يقول نفسه إلا بواسطة اللغة، إنه نداء «ينادي ويسأل عبر اللغة» (محمد طواع «هايدغر والميتافيزيقا – مقاربة تربة التأويل التقني للفكر»). والمتكلم (اللغة) إصغاءٌ للوجود «لأننا عندما نتكلم فإننا ننصت إلى الوجود الذي يأتي نحونا عن طريق اللغة»( المرجع نفسه) .

هايدغر والشعر

نستشف من كل ما سبق، بخصوص الفهومات التي أعطاها هايدغر للغة، أن هذه الأخيرة، في ماهيتها، شعرا صرفا. وعليه فإن الشعر يُصبح تأسيسا فعليا للوجود، لأن الشاعر هو من بمكنته أن يعري اللغة التي تحجب الوجود في كليته وماهيته. فالشاعر «لا يسمي الأشياء بقدر ما يمحي عنها أسماءها، ويكشف الأشياء دون أسماء.

إن نقد العالم يسمى اللغة، ونقد اللغة هو الشعر. في الحالة الأولى يتحول العالم إلى لغة، أما في الحالة الثانية فاللغة هي التي تغدو عالما»( أوكتافيو باث: عن «في الحاجة إلى إبداع فلسفي»). الشعر إذن، بالنسبة لهايدغر، ليس مجرد لغة وصورة تمت صياغتهما بما يناسب قالبا لغويا أو بويطيقيا ما، وإنما هو مرآة تعكس ماهية اللغة بوصفها كشفا (أليثيا/هايدغر).

يقول: «إن الشعر يلتقط الوجود، ويحتسبه في ألفاظ، وأخيلة ويلون ذلك من خلال تجليات الإنسان حارس الوجود، وممثله.. إنه يعطي الأشكال والهيئات في كليتها، وعلينا البحث فيها عن الماهية» (عدنان بن ذريل «هايدغر بين خصومه ومؤيديه» مجلة المعرفة). ليس من شك، والوضع هذا، أن الشعر هو الأكثر قدرة على التقاط الوجود، بله «الكلام الأنقى بالنسبة لتجربة الوجود» (المرجع نفسه).

هذا الكلام يفيد بأن الحقيقة موجودة في الشعر بالقوة والفعل، وما على الشاعر إلا أن يكشفها بما هو جميل. طبعا هذا الكلام لا يعني البتة أن الشعر جميل بذاته، وإنما هو كذلك لأنه «ينتج الجميل» (هايدغر: «أصل العمل الفني»). ومن ثم فإن الشعر بوصفه منتجا للجميل، لا يعدو أن يكون سوى انكشاف للحقيقة باعتبارها الجمال بعينه.

والحاصل أن حوار هايدغر مع الشعر، هو حوار من أجل إرجاع التفكير الفلسفي إلى تربته الشعرية الأصيلة، هو حوار، عطفا على ذلك، من أجل استرجاع وتذكر المقدس الوجودي الذي تم طيّه ونسيانه منذ الفلسفة الأفلاطونية/الأرسطية، والعودة بالتفكير إلى الينبوع البارمنيدي والهرقليطي.

في خاتمة المطاف نخلص إلى مهمة مفادها، أن حوار الشعر والفكر، في المشروع الفلسفي لدى هايدغر، هو حوار من أجل الإصغاء جيدا لنداء الكينونة. فأينما كان الشعر فثمة كينونة، بمعنى أدق وأعم، إن نداء الشعر بالنسبة لمارتن هايدغر ليس إلا نداء الكينونة الأصيلة بكل المعاني.

 

  • شاعر وناقد مغربي

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي