
مروان ياسين الدليمي *
يمتلك الفنان مجساته الذاتية التي يتفرد بها عن الآخرين، في رؤية الحياة بطبيعة قوانينها الأزلية، التي تآلف معها الإنسان، فكيف إذا ما عصفت بها متغيرات عنيفة، مثلما فعلت جائحة كورونا، فمن المنطقي أنها ستاخذها إلى مسارات بعيدة عن إيقاعها الطبيعي، الذي اعتاد عليه في حياته اليومية، حيث تنتظم علاقاته مع الآخرين بناء على تواصله الاجتماعي معهم، فتنمو المشاعر الإنسانية بكل تنوعها واختلافها حسب ظروفها، وفي مثل هذه اللحظات الانعطافية عادة ما تظهر قدرات الفنان بما يمتلكه من مخيلة في التعاطي مع الحدث، والخروج به عبر نتاجه الفني عمَّا يبدو عليه في صورته الظاهرة في التفاصيل اليومية للواقع الإنساني، ساعيا بذلك في المحصلة النهائية إلى إيقاظ الأسئلة في ذهن المتلقي.
حلول فنية جديدة
الفنان بيات مرعي كان له موقفه الفني من جائحة كورونا، التي عصفت بالبشرية منذ مطلع الأشهر الأولى من عام 2020، وهذا ما جسده في معرضه الأخير، الذي أقامه في مدينة الموصل نهاية شهر حزيران/يونيو 2021، الذي ضم ثلاثين لوحة رقمية عرضها أمام الجمهور في صالة ملتقى الكتاب، وأي زائر للمعرض، لا بد له من أن يخرج بنتيجة مفادها، أن الفنان كان دائم التفكير بحلول فنية، يرى من خلالها وقع هذه الكارثة على الحياة والإنسان معا، حيث تمثّل في جميع لوحاته، التي اتسمت بجرأة شديدة، موضوع الجائحة وما خلفته من تحول في سياق العلاقات التي اعتاد عليها البشر في ما بينهم، حتى أن تأثيرها بدا في جميع اللوحات المعروضة، قد تعدى خطورة الحالة الصحية التي أصبحت عليها حياة الإنسان، إلى ما هو أشد خطورة منها، وذلك بتأكيد نفيه للخصوصية الفردية التي يتمتع بها كل شخص، في علاماته الظاهرة على وجهه، فلجأ إلى محو الملامح الذاتية لكل الشخوص، التي تكدست في مساحات ضيقة، بعيدا عن الضوء والهواء والشمس، والأسواق والشوارع وكل الفعاليات الاجتماعية.
كل الوجوه تحولت إلى ثيمة رئيسية مع أنها غائبة بتفاصيلها الخاصة، لكنها حاضرة بقوة المحو الذي أصابها بسبب الكمامة التي تحولت إلى حاجز سميك، لنفي الانفعالات والأحاسيس المتبادلة في ما بينها، فتحولت العلاقات المباشرة بين الإنسان وأخيه الإنسان إلى ممارسة قائمة على التخفي والتستر والنأي، بدل أن تتعالق وتتواصل وتتفاعل، ولأجل تأكيد هذا المحو، عمد إلى تجريد فضاء اللوحات من أي شيء يحيط بالإنسان في حياته العادية، من بعد أن انعزل عنها مرغما.
صدمة التلقي
تعامل مرعي مع موضوع الجائحة في معرضه الرقمي، باعتبارها تحولا طاغيا فرض سلطته على الحضور الإنساني وغيَّبه، وهذا ما أشار إليه عنوان المعرض (وجوه ضائعة) وهنا تبدو تجربة الفنان في علاقته مع الواقع المحيط، أبعد ما تكون عن المحاكاة والاستنساخ، لأنها تنطلق من فهم عميق لعملية الإبداع الفني، وهذا يتأتى من محاولته إيجاد مسارات متمردة على ما هو قائم من أساليب، ونزوعه نحو ضفاف لم يتوصل اليها آخرون، في رؤية الأشياء الظاهرة، بالكشف عما تخفيه دلالاتها القائمة في الذاكرة الجمعية من مدلولات قابلة للتأويل والقراءات المتجددة.
خصوصية بيات تكمن في تعدد اشتغالاته الإبداعية، التي تتوزع ما بين كتابة النصوص المسرحية والرواية والقصة القصيرة، إضافة إلى الرسم والتصميم، وهذا التنوع الأجناسي في تعامله مع الموضوعات والأفكار، جعله يمتلك قدرا عاليا من الحرية بكل ما يتصل بالأساليب، التي يتعامل بها مع أي تجربة جديدة يقدم عليها، إضافة إلى ما تغتني به التجربة من روافد فنية وثقافية لها صلة بهذا التنوع الحاضر في خصوصية ثقافته، ولهذا سيكون أمرا طبيعيا أن تجتذب لوحاته عين المتلقي منذ الوهلة الأولى، لأنها تحدث فيه صدمة على مستوى الرؤية البصرية، لِما تحفل به من غرابة في الأشكال المستوحاة من الواقع، لكنه يحيلها إلى منطقة من التجريد يتغرب فيها الواقع، وهذا ما يميز نتاجه بشكل عام، سواء في فنون السرد أو الرسم، وقد تجسدت هذه الفكرة واضحة في لوحات هذا المعرض.
يستعيد مرعي في لوحاته تركيبة الفن الحديث بقدرته الاستفزازية لذائقة المتلقي، وتحفيزها على أن تقرأ العمل الفني عبر التأمل العميق لحدة الخطوط وانكسار الأشكال بعيدا عن طبيعتها الواقعية، وانزياحها إلى بؤرة من الكثافة الإشارية، بقصد أن يتحلى المتلقي بقدرة على الاستغوار في أبعاد التجربة الفنية، ولا يبقى أسير التلقي اللحظوي الانفعالي.
مواجهة مع الذات
جائحة كورونا في لوحات بيات استحالت إلى مواجهة قاسية مع الذات، لأجل أن تصحو على ذاتها، وتدرك قيمة التواصل الإنساني المباشر، بعد أن اتضح مدى التاثير العميق الذي احدثته في طريقة العيش التي اعتاد عليها الإنسان، وعلينا أن نتذكر ما أوصت به منظمة الصحة العالمية في بداية الجائحة عندما طالبت «بالتباعد الاجتماعي» لكنها أدركت خطورة ما دعت إليه، وأعادت صياغة العبارة «بالتباعد الجسدي» إلا أن الحقيقة التي رصدها مرعي في لوحاته هي فداحة التباعد الاجتماعي الذي تراكم في الزمن الواقعي، وامتد زحفه وتأثيره إلى كل زاوية ونشاط من الحياة الإنسانية، حيث انزوت الوجوه عن الوجوه، وانعزلت عن بعضها بحواجز ومعرقلات، حالها حال الحواجز الكونكريتية، التي تفصل المدن عن بعضها، وتقطع التواصل بين البشر، رغم الصلات الاجتماعية التي تجمعهم.
على الرغم من أن الوجوه اختفت ملامحها، إلا أنها تبدو مشحونة بالأسى واللوعة، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال حدة الخطوط وقسوة حركتها، وكأنها تشير إلى مخزون الذكريات، التي باتت تعتاش عليها من بعد أن فقدت تواصلها مع الزمن الحاضر، الذي يحيلنا إلى هذه القناعة ما بدت عليه الألوان الأساسية من طغيان في فرز خصوصياتها، الأحمر والأزرق والأصفر، وما ينتج عنها من ألوان أخرى.
ولتأكيد فرضية ما أصاب الإنسان من فزع إزاء حالة التباعد الاجتماعي التي فرضتها عليه الجائحة، عمد بيات إلى اعتماد نظرية بافلوف «الانعكاس الشرطي» عندما جعل شخوصه متلاصقة إلى بعضها بعضا، وكأنها تطمح إلى أن تكون كيانا واحدا، نظرا لما تحمله في داخلها من توق إلى التواصل الحميمي من بعد أن حرمت منه في الحقيقة.
الفن طريقة
نحن أمام تجربة فنية تبتعد في وسائطها عن مغريات الممكنات التقليدية، وقد حاول فيها مرعي أن يخضع الفن الرقمي بجمود أدواته التقنية لمخيلة الفنان، وهنا يكمن سر أي تجربة تتخطى المتداول من آليات الإنتاج، لأن «الفن ليس شيئا، إنه طريقة» حسب ما يؤكد على ذلك الكاتب والفيلسوف الأمريكي إلبرت هوبارد (1856 – 1951) إنه طريقة في إيجاد علاقات جديدة مع الأشياء، تدفع المتلقي إلى أن يكتشف ما يمكن أن تختزنه دلالاتها من إيحاءات بعيدا عن التوظيف اليومي المتداول.
بيات في هذا المعرض كان منفتحا على ما يحيطه، رغم ما فرضته الجائحة من عزلة، ابتدأ من تناول موضوع ما زال يفرض هيمنتها على الحياة، وانتهاء باستخدام «الرسم الرقمي التوليدي» الذي يعتمد على لغة الكمبيوتر (الخوارزميات) حيث يستخدم الفنان برامج فنية رقمية خاصة، تجعله يتمتع بقدر من الاستقلالية في توليد أفكاره، وتشكيل لوحته استجابة لما تفرضه مخيلته. وسبق له أن فتح آفاق تجربته الإبداعية على الرسم الرقمي، في معرض مشترك أقامه قبل عامين بالاشتراك مع الرسام موفق الطائي، وفي معرضه الأخير حاول أن يدفع بمخيلته إلى أن تمارس سطوتها على الوسيط الرقمي، بالشكل الذي يفتح آفاقا مستقبلية في تعامله مع التطور التكنولوجي، لصالح الحد من هيمنة سلطة الوسيط الرقمي إزاء ذخيرة الفنان.
وحول الدوافع التي كانت وراء إقامة هذا المعرض، أجابنا قائلا إن «جائحة كورونا عملت على إحداث ضرر صحي أوصل الإنسان إلى القبر، إلاَّ أنها قبل هذا وذاك حاولت مسح عناوين الوجوه، فالكمامة ما هي إلا ماسك لمحو كل المسميات التي تطلقها الوجوه، فما كانت تلك الوجوه إلاَّ أن تظهر في شكل مسخ، من الصعب قراءتها، ومن هنا جاءت لوحاتي لتعبر عن تلك الزحمة والربكة التي أحدثتها الجائحة اللعينة في كل شيء».
*كاتب عراقي