الفلاسفة حاربوا الوهم طويلا إلى أن انتهوا إلى أنه وسيلة للتأمل

2021-07-03

 الأوهام تقود إلى نوع آخر من الإدراك (لوحة للفنان سنان حسين)

أبو بكر العيادي*

الشمس تبزغ والنجوم تنطفئ والسماء تحمرّ والأفق يتبدّى كخط مستقيم.. عبارات نردّدها أو نكتبها كل يوم، دون أن نعي أنها أوهام تخالف ما أثبته العلم، والمفارقة أننا نعرف أن الشمس ثابتة، والأرض كروية والنجوم تعكس الضوء ولا ترسله، والأفق سراب، ولكننا ننساق بطبعنا إلى حواسّ غالبا ما تخطئ.

بعض المفكرين لا يدينون الجسد ولا الذهن في هذه الحالة، لكونهم يعتقدون أن الوهم ضروري.

ندين الوهم على مدار اليوم، ونصف كلّ توّاق إلى أشياء عسيرة المنال بأنه واهم، وفي أحسن الحالات حالم، والحال أننا لا يمكن أن نعيش بغير أوهام، بل إن الإنسان الذي يخلو من الوهم يحكم على نفسه بنضوب الخيال، لأن الوهم طريقة للتأمل في وجه من الوجوه، بفضله يبدع الرسامون والروائيون والشعراء أعمالا توهم بالواقع، فنتفاعل معها ونحن نعرف في قرارة أنفسنا أنها أوهام وإن تشبّهت بالواقع.

   

الإنسان الذي يخلو من الوهم يحكم على نفسه بنضوب الخيال.

نعرف من زمن بعيد أن الحواس تخطئ، وأن مرجعنا الثابت هو العقل.

يقول الجاحظ “ولعمري إنّ العيون لتخطئ، وإنّ الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل؛ إذ كان زماماً على الأعضاء وعياراً على الحواسّ”.

أي أن ما تدركه الحواس وهم، غير أن ديكارت يعتقد أن ذلك لا ينجم عن تقصير من الحواس بل عن أخطاء الحكم على المعلومات التي تنقلها إلينا، والأحكام لا تطلقها الحواس بل العقل، أي أن العقل أيضا شريك في الوهم، ويضرب مثلا على ذلك علماء الفلك الذين لا يمنعون أنفسهم من القول إن الشمس تبدو بالعين المجردة أصغر من الأرض، والحال أنهم متأكدون علميا من أن ذلك خاطئ.

الوهم والمثاليون

كان سبينوزا يقول “رغم علمنا بأن الشمس تبعد عنا مسافة تفوق قطر الأرض بأكثر من ستمئة مرة، لا نكف عن تخيّلها قريبة منا”.

كذلك مشكلة العصا التي تبدو في الماء منكسرة، فيما هي ليست كذلك عند اللمس، فمعرفتنا بقوانين العلوم البصرية هي التي تجعلنا نفسّر خطأ الرؤية بقوانين انحناء الضوء نتيجة مروره من وسط إلى آخر، أي عن حكم سابق كامن في الذهن.

والسبب أننا لا ندرك الأجسام عن طريق الخيال أو الحواس، بل بالذهن. ذلك أن الوهم لا يكون أبدا في الإدراك بل في الحكم الذي يتولّد عنه، سواء أكان صائبا أم خاطئا.

يقول ديكارت “لو نظرت من الشباك إلى رجال يمرون في الشارع، لا أتردّد في القول عند رؤيتهم إني أرى رجالا… مع أني لا ألمح في الواقع سوى قبعات ومعاطف، قد تكون تستر أشباحا أو رجالا اصطناعيين يتحركون بلوالب.

غير أني أصدر حكما بأنهم رجال حقيقيون، وبذلك أفهم بقوة الحكم التي تكمن في ذهني ما أحسب أني أبصره بعينيّ”.

أي أننا لا ندرك الأجسام عن طريق الخيال أو الحواس، بل بالذهن. وهو ما لا يخالفه فيه باسكال حين يقول “أكون واهما حين آخذ متعتي مأخذ الحقيقة وأستخلص من الأفق أن الأرض مسطّحة، ولكني واهم أيضا إن

أنا قدّست الحقيقة، فألقي بمداركي في محرقة العقل… ذلك أن الواقع لا يمكن قيسه، والخطأ والصواب هما سجلاّ الوهم: أن أقف مذهولا أمام تحولات قطعة شمع أو أن أخلع عنها رائحتها أو طَعمها أو تماسكها كي أعرف بطريقة أفضل ما هي، فأني سأضِلّ في حالة أولى، وفي حالة أخرى أنسى نفسي”.

وفي رأي ديكارت وسبينوزا أن المخدوعين يلتقون في أمر مشترك وهو أنهم يرفضون الخطأ، فالذين يُدينون الوهم هم في الغالب ضحايا المثل العليا، فالفيلسوف الذي لا يقبل إلا اليقين المطلق، والعِلموي الذي

يريد تغيير وجه العالم، والرجل الفظ الذي يرتاب من كل ما يقال له، والشاب الذي يبكي أوهامه الضائعة، كلهم يرهنون حياتهم للحقيقة ولو كانت خادعة، تماما مثل ألسيست بطل موليير حين يتوسل إلى سيليمان، حبيبته التي يعرف أنها تخونه، بأن تتظاهر له بالوفاء، وهو مستعدّ أن يصدّقها.

استعارة أفلاطون

   

الفلاسفة حاولوا تحرير الفكر الإنساني من أوهام الحسّ ولكنهم انتهوا إلى الاعتقاد بأن الوهم يدفع إلى التأمل

يعتقد كانت أن الذهن لا يمكن أن يعرف سوى الظواهر، أي المظاهر الحسية لا الأشياء في حدّ ذاتها.

وتتمثل المعرفة في توحيد الظواهر بتنظيمها تحت أصناف الإدراك، ويفضي تجاوز تلك الحدود إلى الوهم الميتافيزيقي، الذي ينجم عن رغبة العقل البشري في مواصلة توحيد الظواهر، في ما وراء أصناف التجربة الحسية وصولا إلى أفكار ميتافيزيقية.

تلك الأفكار تحوصل مجمل تمثلاتنا في منظومات، حيث تُدرج الظواهر الطبيعية في فكرة العالَم، والظواهر الذهنية في فكرة الروح، وكل الظواهر تحت فكرة الرّبّ.

وبذلك تنشأ الكوسمولوجيا والسيكولوجيا والتيولوجيا، غير أن تلك الحقول المعرفية التي تدّعي بلوغ الأشياء في حدّ ذاتها، تمثل في الواقع أوهاما تتجلى عبر عدد من التناقضات، كالقول إن العالم بدأ داخل الزمن، والقول من جهة ثانية إن الزمن سرمدي لا بداية له ولا نهاية.

وكان أفلاطون أوّل من أثار مسألة الوهم حين استعرض في “الجمهورية” استعارة الكهف، فالإنسان الذي يغادر الكهف، حيث لم يكن يرى غير ظلال الأشياء، لن يقبل طوعا بالعودة إلى أوهامه السابقة، والعيش كما كان.

في استعارة أفلاطون تلك، كان سجناء الكهف مقيّدين بسلاسل على نحو لا يستطيعون معه النظر إلا إلى الجدار، ويعتقدون أن ظلال الأشياء التي يرونها على جدار تضيئه النار حقيقة.

ولو خلّصنا أحدهم وأخرجناه من الكهف، فسوف يصعب عليه أن يصدق أنّ ما رآه حتى تلك اللحظة لم يكن سوى أشباح الواقع.

العالم الحسيّ في رأي أفلاطون شبيه بعالم الظلال في جوف الكهف، أما العالم الحقيقي فهو عالم الأفكار الذي تضيئه قيمة الخير، والتربية التي تسمح للنفس باكتشاف واقع الأشياء الحق عبر علوم كالرياضيات والهندسة.

بينما العالم الحسّيّ هو عالم الأوهام والظواهر، أي المظاهر التي نتوهّم أنها واقعية. غير أن أفلاطون يدرج حيّزا للوهم ينوب فيه اللوغوس عن الميتوس، أي أننا في غياب الجدلية العقلانية يمكن أن نلوذ بالأساطير ونقنع بأشياء لسنا واثقين من حدوثها، لأن الأسطورة في اعتقاده ليست سوى تمثل يمكن حدوثه، وبين ذلك التمثل الذي لا يلغي الوهم ووهم العالم الحسي، تظل مكانةُ الاستدلال المنطقي، الذي لا يستهان بأهميته، محدودة.

ولو طبّقنا هذا المثال على واقعنا الراهن، لوجدنا أن استعارة أفلاطون تتحقق من خلال الغزو الرقمي، فالعالم المادي كما تكشف عنه حواسّنا يعارض ما ينبئنا به العلم الحديث عن طريق المعلوماتية، حيث يتبدّى لنا العالم من خلال الشكلانية الرياضية بقوانينه وقواعده وصوره، إذ أصبحت العدسات التي تنقل الصور آلات رياضية، هي وحدها القادرة على السيطرة على الواقع.

حتى الصور الشمسية التي كانت حتى وقت قريب تتوسّل بسند ورقي محسوس باتت الآن رهينة الرقمي. فما نراه على الشاشات وهم في أغلبه، بدءا بالفوتوشوب، وصولا إلى الأصدقاء الافتراضيين.

لقد حاول الفلاسفة تحرير الفكر الإنساني من أوهام الحسّ ولكنهم انتهوا، مثل ريكور، إلى الاعتقاد بأن الوهم، كالرمز، يدفع إلى التأمل.

 

  • كاتب تونسي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي