هل تتجه الرواية حقا نحو الانقراض؟

2021-06-12

الرواية حية لا تموت

مولود بن زادي*

يتساءل الباحثون والأكاديميون منذ أكثر من قرن عن مصير الرواية التي رافقت الإنسان في مشوار حياته، منذ القرن الثاني عشر أو قبل ذلك. وقد ازداد هؤلاء حيرة وانشغالاً في السنوات الأخيرة، في ظل عصر التكنولوجيا الرقمية، وما وفّره من تقنيات حديثة وسوشيال ميديا، وخيارات التفاعل المباشر، وسهولة الوصول إلى البيانات والمعلومات، ضمن طفرة حضارية لا سابق لها.

وها هو عالمنا اليوم يدخل العشرية الثالثة من الألف الميلادية الثالثة، وما زال التساؤل قائما في صيغ وأشكال متعددة، منذرا بنهاية أو على أقل تقدير قرب نهاية عصر الرواية.

وفي موازاة ذلك، يتردد سؤال آخر لا يقل أهمية: إذا كانت الرواية مهددة بالموت، فما الذي حال دون زوالها إلى يومنا هذا؟ فضلا عما تشهده الساحة في عصرنا من انتعاش أدبي، وضجة الجوائز المرموقة، وزيادة عدد الأقلام الأدبية، وإغراق الأسواق والمكتبات والمعارض بالأعمال الإبداعية؟

الرواية حية لا تموت

من الذين شكّكوا في قابلية الرواية للموت الشاعر والروائي والناقد الأمريكي روبرت بن وارن، الذي قال في عام 1966، في احتفال بالذكرى الخمسين لجائزة بوليتزر التي فاز فيها ثلاث مرات: «قد تترك الرواية الصفحة المطبوعة – إذا كان عصر غوتنبرج قد انتهى فعلا – لكنها قد تظل رواية».

ليزا لوكاس، المديرة التنفيذية لمؤسسة الكتاب الوطنية ومقدمة الجوائز المخصصة للاحتفاء بأفضل أعمال أدبية في أمريكا، من جهتها، استماتت في الدفاع عن الرواية. كتبت في مقال في صحيفة «تايم»: «الكتاب مات، من العبارات الشائعة التي أسمعها باستمرار.

عندما ألتقي بالناس في مترو الأنفاق، في سيارة أجرة، في المطار، أو في أي مكان أكون فيه، يسألونني: ألم يكف الناس عن القراءة؟ توقفوا عن القول إنَّ الكتب قد ماتت، فهي حية أكثر من أي وقت مضى».

روبرت بن وارن

خلل لا ينكر

لكنّ التيار المتشائم يبدو الأقوى، فجلّ النقاد والأكاديميين يجمع على أنَّ عالم الأدب يعاني من خلل ما، وأنه على سرير الموت إن لم يكن قد مات. من هؤلاء في القرن الماضي جورج شتاينر، الذي فجّر جدلا واسعا بعد نشره كتاب بعنوان «موت المأساة» عام 1961، محذّرا بأن التراجيديا لم يعد لها أثر في المجتمعات الحديثة التي يسودها تفكير عقلاني.

وقد أثار الناقد الأدبي الأمريكي ألفين كيرنان هو الآخر ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية والإعلامية بكتاب «موت الأدب» عام 1990، علل فيه أسباب موت الأدب ومن جملتها تسييس النقد، وبروز ثقافة التلفزيون.

وها هي صحيفة «الغارديان» البريطانية تنعى موت الرواية بمقال صادم في عام 2014 بعنوان: (الرواية ميتة وهذه المرة حقيقة) مؤكدة أنّ الخيال الأدبي كان محور الثقافة في الماضي، ولم يعد كذلك في عصرنا هذا، العصر الرقمي الذي يطبعه تراجع الكتاب وصعوبة القراءة.

تراجع القراءة

من الذين أثاروا مسألة صعوبة القراءة الكاتب الإنكليزي ديفيد هربرت لورانس، الذي اعترف بأنه صار شخصيا يشعر بالملل وهو يقرأ الروايات الحديثة: «قراءة أي رواية من الروايات الحديثة بالكامل تزداد صعوبة. يكفي أن تقرأ قليلا لتعرف البقية، وقد لا ترغب في معرفة المزيد».

موت الرواية لن يكون إلاَّ بموت القراءة، وتراجع القراءة الأدبية أضحى حقيقة تؤكدها التقارير والإحصائيات، وما يُقصد بالقراءة الأدبية هو مجمل الروايات والقصص القصيرة والأشعار والمؤلفات الدرامية المنشورة ورقياً أو إلكترونياً.

إذ تشير أبحاث شركة (كانتار ميديا) الصادرة في عام 2019 إلى أنَّ 49% من البالغين في المملكة المتحدة لم يقرؤوا كتاباً واحداً خلال 12 شهرا كاملة! المسألة لا تقتصر على الكبار فحسب، فقد أكدت دراسة أجراها الصندوق الوطني لمحو الأمية في بريطانيا، أنّ مستويات القراءة اليومية بين الأطفال والشباب في انخفاض حاد: إذ لم يتجاوز عدد الأطفال البريطانيين الذين يقرؤون يومياً في أوقات فراغهم نسبة 25.8% في عام 2019!

الإنترنت بدلا من الروايات

تراجعُ القراءة هذا لا يعني مطلقا أنّ الإنسان لم يعد قارئا. فهو بطبعه لا يكف عن القراءة، بيد أنّ وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة، صرفت اهتمامه عن الأعمال الروائية والنصوص الأدبية إلى المواقع الإلكترونية. فهو قارئ رقمي بامتياز، منشغل بقراءة الرسائل الإلكترونية والنصوص القصيرة ورسائل ماسنجر المتساقطة تساقط المطر، ومنشورات عشرات، بل مئات الأصدقاء الافتراضيين وتعليقاتهم، فضلا عن الأخبار ومراجعات الكتب ضمن عالم تفاعلي مثير، ما يشغل وقت فراغه الضيق ويغنيه عن القراءة الأدبية المعقدة والمملة.

هيمنة الإعلام المرئي

رغم هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، يعدّ التلفزيون من أبرز وسائل الترفيه ومنافساً شرسا للقراءة.

فحسب استطلاع نشرته صحيفة «ذا نيويوركر» بلغت نسبة المواطنين الأمريكيين الذين يشاهدون التلفزيون ثمانين في المئة، أي ما يناهز أربعة أضعاف نسبة الأمريكيين الذين يقرؤون! صحيفة «ذا باريس ريفيو» تطلعنا على التحديات التي يواجهها الروائي في عصرنا، من خلال تجربة الكاتب الروائي لكيرت فونيغوت في نهاية تسعينيات القرن الماضي، «عندما بدأت العمل، كان بإمكانك أن تكسب لقمة العيش ككاتب روائي مستقل، وأن تعيش خارج صندوق بريدك، في غمرة العصر الذهبي للمجلات، وبدا الأمر كما لو كان ذلك سيستمر إلى الأبد.

وإذا بالتلفزيون يصبح أفضل سلعة للمعلمين، ما أدّى إلى توقف عمل المجلات». واليوم يفضِّل كثيرون مشاهدة قصص السيرة الذاتية والأعمال التاريخية والدرامية على قراءتها، أمثال هاري دوق ساسكس، الذي قال، «أشعر براحة أكبر وإلى أبعد الحدود وأنا أشاهد سلسلة «التاج» مقارنة بقراءة القصص المكتوبة عن عائلتي أو زوجتي أو نفسي».

انقراض الأقلام الرفيعة

انقراض الرواية يبرره انقراض أعمدة الأدب. التقرير الذي نشره مجلس الفنون في إنكلترا (ACE) عام 2017 ينذر بأنَّ الأقلام رفيعة المستوى من الأنواع المهددة بالانقراض في هذا العصر. فقد أكدت الأبحاث التي أجريت في الفترة الممتدة بين 2016-2017 أن مبيعات الأعمال الروائية وأسعارها في انخفاض مستمر، وأنّ قدرة المؤلفين على كسب الرزق من كتاباتهم «تآكلت بشكل كبير».

فقد انخفضت نسبة المؤلفين الذين يعيشون كلية من الكتابة من 40% في عام 2005 إلى 11.5% في عام 2013.

عجز الرواية عن التأقلم

إنَّ أكبر خطأ وقعت فيه الرواية، في عصرنا السريع والمتغيِّر، عجزها عن مواكبة عجلة التحوّل. فبينما أثبتت الوسائل التكنولوجية ومنها التلفزيون – قدرتها الفائقة على التطور والتأقلم، ما يُعِينُها على البقاء، ها هي الرواية تحتفظ بشكلها القديم المتوارث عبر أجيال، لا تعرف التحرر من أغلال الماضي.

لقد شهد التلفزيون تحولات غير منقطعة، منتقلا من الأبيض والأسود إلى الملون، وإلى ملون فائق الدقة، بتقنيتي 4 كيبي و8 كيبي، ومتحولا إلى تلفزيون ذكي يسمح بدمج الإنترنت، موفرا للمستخدمين خيارات الاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة مقاطع فيديو وتصفح الإنترنت والمشاركة في عالم تفاعلي هو من سمات العصر. يشهد التلفزيون، المنافس للأدب، كل هذه التغيرات، وما زالت الرواية تحتفظ بقالبها القديم المحافظ ، وما برحت تصدر في مئات الصفحات، وفي كثير من الأوقات، بأسلوب معقد يكتنفه لف ودوران، ما من شأنه أن ينفِّر المتلقي ويشعره بالإجهاد والملل في عصر التطور التكنولوجي.

أدب إنترنت تفاعلي

واليوم كل المؤشرات توحي بأنّ الرواية ستستمر في التراجع بالنسبة للأجيال القادمة، حيث سينشغل الإنسان بمطالعة منشورات قصيرة وخفيفة متنوعة، بدلا من الرواية التي تتطلب وقتا وجهدا فكريا. لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة زوال الرواية كلية. فقد تستمر في صيغة ما، بعيدا عن شكلها المألوف، ولجماهير محدودة فحسب.

قد تحيا في شكل تفاعلي كأن يملك المتلقي خيارات متعددة على شاشته، كخيار قراءة مختصر الرواية، وخيار الإصغاء إلى مقتطفات، وخيار مشاهدة اقتباسات مصحوبة بصور وفيديو وصوت وموسيقى، وروابط إلى عوالم مختلفة خارج الرواية ذاتها.

وفي عالم مرئي تفاعلي متنوع، قد يكون للاقتباسات التي تمثل صفوة ما كُتب فيها موقع بارز في الأجيال القادمة بحكم ضغط الحياة السريعة، وكثافة المعلومات والأخبار، وقلة الوقت، وما تقتضيه القراءة من جهد لتفكيك الرموز وإدراك المعنى، وأيضا لأن الاقتباس أكثر إثارة للانتباه وأسهل للفهم والتذكُّر مقارنة بكتاب معقد يقع في مئات الصفحات، لا يعبّر إلاَّ عن رأي وتوجّه مؤلِّفه.

 

  • كاتب جزائري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي