رواية "مياه مفتوحة" للغاني كاليب نيلسون: الأثار النفسية للعنصرية

2021-06-11

أماني-الصيفي: كانت حادثة قتل جورج فلويد، الرجل الأسود البالغ من من العمر 46 عاما، في مينيا بولس في الولايات المتحدة في مايو/أيار 2020 وما تلاها من مظاهرات عارمة تنادي برفض العنف ضد السود؛ بمثابة تذكرة قوية للمجتمعات الديمقراطية بندوب تاريخ طويل وحشي لاستعمار، وعبودية الرجل الأسمر، ليس فقط على المستوى الجسدي، لكن كذلك على المستوى النفسي، يظهر هذا خصوصاً في وحشية تعامل الشرطة مع ذوي البشرة السوداء في الغرب اليوم، وعلى الرغم من أن الكثيرين قد يربطون بين العنف بدوافع العنصرية، تجاه هؤلاء الأشخاص والولايات المتحدة؛ بسبب تاريخها الطويل من العبودية، والنضال من أجل حقوق متساوية للسود، إلا أن العنصرية ضد الجسد الأسود تُعَدُّ أحد الأمراض المزمنة في العديد من المجتمعات الشرقية والغربية، فقد يختفي العنف الجسدي أحياناً، لكن يبقى العنف والألم النفسي حاضراً في نظرات ما زالت تنهش هذا الجسد وتستعمر حاضره ومستقبله، وإذا كان علينا التصدِّي لهذه الأشكال الخفية والشريرة من الاضطهاد، التي يواجهها هؤلاء الأشخاص يوميًّا، فقط بسبب لون بشرتهم؛ فإن القراءة عنهم تُعَدُّ وسيلة فعَّالة، بعيداً عن الخطابات ووسائل الإعلام الرسمية، خصوصا في حكاياتهم وقصصهم التي تنقل لنا رؤيتهم ورواياتهم لتاريخهم، ومشاعرهم، واحتياجاتهم، وآلامهم، في محاولة لتحدي تحيزاتنا المسبقة عنهم، وتخيل أنفسنا مكانهم.

وهنا سأعرض أحد الأصوات التي تُصوِّر مشاعر هؤلاء وآلامهم وآمالهم، التي يتحملها جسدهم وأروحهم، من خلال قراءة في رواية «مياه مفتوحة» لأزوما نيلسون، التي صدرت في شهر فبراير/شباط عن دار نشر فايكنج في المملكة المتحدة.

أزوما نيلسون مُصوِّر وكاتب بريطاني من أصل غاني، كتب قصصا قصيرة، وقد وصلت قصصه القصيرة إلى نهائيات جائزة «بي بي سي» الوطنية للقصة القصيرة، وهو يقطن في جنوب شرق لندن، حيث تقع أحداث رواية «مياه مفتوحة» التي يناقش فيها مسائل عديدة أهمها، مفهوم الذكورة، الوطن، والهوية من خلال تأثير الآثار النفسية للعنصرية على روح ذوي البشرة السمراء.

وتعالج أحداث رواية «مياه مفتوحة» – التي تقع في166 صفحة، مقسمة إلى ثلاثين فصلا – هذه الإشكاليات من خلال تطوُّر قصة عاطفية بين شاب غاني نشأ وتربى في لندن مع عائلته، ويعمل مُصوِّرًا وفتاة سمراء تعمل راقصة، ويشتركان في العمل على مشروع فوتوغرافي لتدوين تاريخ السود. وتتداخل أحداث القصة العاطفية مع العنصرية، التي يكابدها ذوو البشرة السمراء في لندن، فعلى مدى عام ستمر العلاقة العاطفية باختبار ليس فقط على مستوى المشاعر بين الطرفين، لكن ماذا يعني أن تحب، وأنت تحمل عبء جسد أسود في مجتمع عنصري، تشعر فيه وكأنك تحيا فقط؟ تخرج من منزلك ولا تعلم إن كنت ستعود سالًما أم لا؟ فإن عدتَ سالماً جسديًّا، فهل هذا يعني أنك سليم على المستوى النفسي؟ كما يكرر الراوي: «إن الموت لا يكون دائما موت الجسد». ففي هذه الرواية يتمَّ إيقاف البطل في الشارع مرتين في أسبوع واحد من قبل البوليس، دون سبب، غير أنهم يعتقدون أن آخر أسمر ارتكب جريمة ما في محيط وجوده، وفي مكان آخر يرى رجل البوليس جاثياً بركبته على صدر سيدة سمراء يشتبه أنها ارتكبت جريمة ما، دون أن يستطيع أحد من المارة السود منعه.

وتنتهي الرواية بانهيار البطل نفسيّاً، وفشله في أن يتمسك بالحب الذي كان يراه طوق نجاته الوحيد في عالم لا يثق فيه، وحياة يفتقد فيها الأمان. فالرواية تصف البطل الذي يتوق بشدة إلى الشعور بالثقة والأمان، ويعتقد أنه لا يمكنه ايجادهما سوى في الحب، فعين المحب وحدها قادرة على رؤية الحقيقة المختلفة للسود عن تلك السائدة عنهم.

يقول: «تخبرك أنها تحبك، والآن تعلم أنه ليس عليك بعد الآن أن تكون مجرد مجموع صدماتك، وأن هناك حقائق متعددة، وأنك تحبها أيضًا».

الذكورة والصدمة النفسية:

وهنا يحاول الكاتب حثَّ قرَّائه على تحرير «الجسد الأسود» من خلال رؤيته، وليس مجرد النظر إليه، «فمن خلال النظر يتم اختزال الجسد في لونه الذي يضع السود جميعاً في صندوق مُتخيَّل يصورهم كمصدر للخوف والشر». بينما رؤية «الجسد الأسود» تتجاوز التحيزات المسبقة، وتعيد لهذا الجسد تفرُّدَه، وتميُّزَه، وإنسانيته، وبالفعل تحتفي الرواية بجمال «الجسم الأسود» إذ يصف البطل جمال الملامح الجسدية لحبيبته .هذا الجسد «يشبهها هي فقط « وبالنسبه له فهو بمثابة» رائحة الوطن». وهنا فقط بجوار جسدها يشعر بالأمان. تلك الصورة التي تناقض صورة للجسد الأسود بأنه مجرد حامل «للخطر، والقبح مقابل الجسد الأبيض الخير والجميل» لكن مع تطور أحداث الرواية سيجد القارئ أن الحب والنجاح الشخصي، لا يكفيان دائما ليحيا ذوو البشرة السمراء حياةً مستقرةً وآمنةً وصحيةً في مجتمع عنصري، فرغم منحهم حرية التنقل والمساواة في فرص التعليم والعمل، وأماكن الترفيه، على عكس الأجيال السابقة، ورغم أن هناك الكثير من المميزين والمبدعين من ذوي البشرة السوداء، لكنهم ما زالوا مسجونين داخل لون أجسادهم .

يصف أزوما تأثير كل حادث عنصري على هؤلاء الأفراد، وكذلك تأثير تكرار هذه الأحداث العنصرية؛ بقدرتها على تحطيم احترام الأفراد لذواتهم، وفقدانهم للشعور بالأمان في مجتمعهم، والتحكم في مصائرهم، غير أنه مع تكرار مشاعر العجز هذه فإنها قد تؤدي إلى الاكتئاب في النهاية، كما تظهر دراسات حول الصحة النفسية والعقلية.

من خلال بوح البطل بالشعور بالخوف، وعدم الأمان، والعجز، يتحدى أزوما الصورة النمطية للذكورة والرجولة، مقابل الأنوثة التي تصور الرجال دائماً أقوياء ومستقلين، في مقابل النساء الضعيفات والخاضعات، فيتم تشجيع الرجال دائمًا على أن يسيطروا على عواطفهم، ويجمحوا التعبير عن مشاعر الضعف، وإلا تحولوا لأضحوكة في مجتمعاتهم، تلك الصورة التي تتحداها الرواية، إذ يجد القارئ نفسه أمام رجل يبكي، ويتألم، وينهار بصوت عالٍ، ويسعى للشفاء من صدمته وإحساسه بالضعف والخوف في وجود حبيبته، تلك الصورة تدعونا لإعادة تعريف وتقييم فهمنا لمعايير «الذكورة» وما تتطلبه من تصرفات وَفْقاً لمعايير اجتماعية لا تتناسب بالضرورة مع التحديات التي يمرُّ بها الرجل في سياقات تفوق قدراته النفسية أحيانا، مثل: الاستعمار، والهجرة، واللجوء.

كما اقترح جي جي بولا في كتابه الأخير «انزع عنك قناعك: إعادة تعريف الذكورة» المنشور في عام 2019.

أما عن الأسلوب الأدبي: فالرواية مكتوبة من منظور ضمير المخاطب، وهي تقنية روائية نادرة، بل تحتاج إلى صبر وإتقان أدبي، من خلال مخاطبة الجمهور مباشرة، فيُشرك الراوي الجمهورَ في الأحداث، ومن خلال استخدام صيغة المضارع في السرد، يخلق الكاتب حاجة للتغيير، والنظر إلى ما هو أبعد من الإمكانيات المحدودة المتاحة. علاوة على ذلك، يمكن قراءة الرواية على أن الراوي يحكي لنفسه ما حدث، وبالتالي فهي محاولة لدفعه وكذلك السود عموما لمواجهة الوضع الفعلي، الذي هم فيه، ودفعهم لتحرير أنفسهم من معاناتهم من خلال التعبير عن مشاعرهم بصوت عالٍ قبل الاختناق بسبب غلق أفواههم في المياه المفتوحة.

وبشكل عام؛ فهذه الرواية بداية روائية مميزة عبرت عن مشاعر العنصرية، وكذلك الحب، وكل ما يستحضره معه من مشاعر القوة والهشاشة بلغة شاعرية عميقة جدّا تأسْر القارئ من أول صفحاتها وحتى آخر سطر فيها.

 

*كاتبة مصرية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي