الدنمارك.. تجدد العنصرية وضحية هذه المرة أسرة تونسية

2021-05-26

ناصر السهلي

"هذه ليست بلادكم.. ارحلوا إلى دياركم.. أنتم لا تنتمون إلى هنا.. انظروا إلى بشرتكم الصفراء"، مع وابل من الشتائم، هو بعض ما تعرضت له أسرة دنماركية من أصول تونسية أثناء نزهة عادية مع طفلين صغيرين باتجاه ميناء كاستروب، غير بعيد عن الواجهة الدولية للدنمارك في مطار كوبنهاغن.

لحسن حظ الأم، قدس الحميد، أنها وثّقت ما جرى على يد شخص دنماركي في متوسط العمر ويبدو أنه صدم واستفز من اللغة الدنماركية السليمة لمُدرّسة الابتدائي التي واجهت وزوجها الموقف ولم تقبل الصمت على نعوت الشخص، مطالبة إياه أن يخرس ويترك الأسرة بحال سبيلها. 

وعلى ما يبدو أن ارتداء قدس الحجاب شكّل للمرة الثانية، بحسب ما تذكر، صداماً مع أناس عنصريين. وذكرت أنها لم تعد قادرة على إدارة الخدّ الآخر والمضي في سبيلها، لذا اختارت هذه المرة مواجهة الموقف، حيث واصل الشخص العنصري إرسال وابل من النعوت وفوجئ بعدسة هاتفها تسجل الحادثة، محاولاً التهجم عليها لإيقافها، فتدخل الزوج واقفاً في المنتصف ومحذراً إياه أن يتقدم أكثر باتجاه زوجته.

في خلفية هذا الهجوم يمكن مشاهدة صدمة الطفلين مما يجري، وأمهما ترد على المهاجم، في حين أن كل ذنب الأسرة هو الخروج مع الصغيرين في نزهة.

هذه الحادثة، التي تعتبر فيها الأسرة محظوظة لتصويرها، فيما آخرون يتعرضون لها دون تمكن من توثيقها، لقيت انتباهاً وردود أفعال وتصدرت الثلاثاء والأربعاء 25 و26 مايو 2021 معظم وسائل الإعلام، رغم أنها حدثت يوم 23 من الشهر الحالي. وأوضحت الأمّ على فيسبوك ما حدث لأسرتها عبر الفيديو، معبرة عن إحباط من تكرار هذه التصرفات العنصرية، ومطالبة أن تجرى محاربة التمييز بناء على لون البشرة. 

حصل الفيديو المنشور على صفحتها على أكثر من 260 ألف مشاهدة، هذا إلى جانب أن التلفزيون الدنماركي، دي آر، وبقية المحطات ومعظم صحف الدنمارك نشرته مع تسجيل ردود أفعال القراء والمتابعين. ورغم ما حظي به الفيديو من تفاعل ظل دنماركيون يدافعون عن عنصرية المهاجم من زاوية حجاب السيدة واتهامها بـ"إسلامية متشددة" و"متدينة" (وكأن التدين يشرعن العنصرية)، والبعض الآخر حاول انتقاد الفيديو من زاوية أن الأم "لم تهتم لظهور طفليها في الفيديو"، دون انتقاد للعنصرية المتفشية.

وفي المقابل، رغم زيادة تنغيص قراء ومتابعين للحادث، ومحاولة نبش "تدين" الأمّ، دون فهم المقصود "ما إذا التدين يعني قبولاً للعنصرية لأنها محجبة؟" كما علق البعض، وجدت الحادثة تنديداً سياسياً واسعاً من أقصى اليمين (بمن فيه حزب الشعب الشعبوي) إلى أقصى اليسار، إذ رفضت التعليقات في أغلبها ما تعرضت له الأسرة. وعلى الرغم من ذلك يصر بعض السياسيين من يسار الوسط، بمن فيهم عضو البرلمان الدنماركي كردي الأصل أصلان راسموسن، على اعتبار أنه " لا توجد مشكلة عنصرية في الدنمارك تجاه المسلمين، فاليهود يتعرضون مع المثليين لعنصرية أكثر". موقف أثار اليسار الدنماركي الذي اعتبره التفافاً على حقيقة تفشي العنصرية في المجتمع الدنماركي والسكوت عليها.

رئيسة وزراء الدنمارك، ميتا فريدركسن، علقت على الفيديو رافضة الموقف وشجعت الأسرة على الرد، معتبرة الدنمارك للجميع. ورغم ذلك تصر فريدركسن، وسط انتقادات من يسار الوسط، في حزب راديكال، واليسار البرلماني، على أن الدنمارك ليس فيها مشكلة عنصرية. وهذا الموقف مستمر منذ أن شهدت الدنمارك العام الماضي تحركات منددة بمقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على يد الشرطة، ومقتل شاب دنماركي أسود البشرة في جزيرة بورنهولم.

لليسار الدنماركي موقفه الرافض لحالة الإنكار، بل يتهم البعض فريدركسن و"الاجتماعي الديمقراطي"، من خلال بعض برلمانييه، مثل أصلان وراسموس ستوكلوند، بالعمل على تعزيز حالة الفرز المجتمعي على أساس الخلفية العرقية. واعتبر وزير الهجرة والدمج، ماتياس تيسفايا، أنه من "المحزن سماع هذه القصة"، لكنه عاد وأكد أنه لا توجد بشكل عام مشكلة عنصرية في الدنمارك، مشيراً إلى أنه من الجيد تدخل بعض المارة ووصول الشرطة إلى المكان، بعد أن اتصلت الأسرة للشكوى.

 وعلى الرغم من إجماع الأحزاب السياسية على رفض الحادثة، التي ندد بها معظم أعضاء البرلمان من معسكري اليمين واليسار، عاد لارس أصلان (وهو منتخب على لائحة حزب رئيسة الحكومة، الاجتماعي الديمقراطي) ليؤكد للتلفزيون الدنماركي، بعد أن تناولت القناة الموضوع واستقبلت قدس لتشرح ما جرى، أن ما رآه في الفيديو "عنصرية واضحة، ولكن ليست هذه الصورة الأشمل في الدنمارك، فلدينا مجتمع متسامح إذا ما قورن بدول أخرى". وأصلان يكرر بنفسه في مناسبات عدة مهاجمة بعض المهاجرين ويفتعل أزمات للظهور الإعلامي، كما ينتقده نشطاء اليسار، مثل ذهابه "لشراء سندويش شاورما في نوربرو (منطقة في كوبنهاغن تعتبر معقلاً لليسار ويعيش فيها نسبة كبيرة من أصول فلسطينية) ورأيت وسمعت شبانًا يحاولون استفزازي (مع نشره صورة لنفسه مع سندويشه)". ومثل تلك التصرفات التي تصدر عن أصلان وقيادات في يسار الوسط ما ينتقدها اليسار الدنماركي والنشطاء في أوساط الأصول المهاجرة الذين يعتبرونها تحريضاً وتقسيماً عرقياً للمجتمع.

وردت السياسية البارزة في اليسار الدنماركي بيرنيلا سكيبر  على أصلان باستحضاره أن اليهود يتعرضون للعنصرية "مناورة للالتفاف، فما شاهدناه في الفيديو منتشر ويحصل للكثيرين من الأقليات". وتكررت بالفعل حوادث التهجم العنصري على الأصول المهاجرة، ويشارك فيها كبار سن، كما أشار "العربي الجديد" سابقاً إلى هجوم زوجين على محجبة في موقف سيارات قبل أشهر قليلة. 

في المجمل، فإن حوادث العنصرية التي يعاقب عليها نظرياً قانون العقوبات، الذي يطالب حزب يميني متشدد (البرجوازية الجديد) بزعامة بيرنيلا فيرموند طرحه على البرلمان لشطبه، تكررت خلال الفترة الماضية مع مساهمة واضحة ومنتقدة حقوقياً لسياسيين في الحزب الحاكم المتهم بتبني مواقف يمينية بخطاب سياسي وتعليقات غير منتقاة يفهمها المركز الدنماركي لحقوق الإنسان وحزبي اللائحة الموحدة والشعب الاشتراكي (اليساريين) وحزب راديكال فينسترا (يسار وسط) أنها تساهم بـ"تطبيع الخطاب العنصري".

 وسجلت الشرطة الدنماركية تزايدا في شكاوى من العنصرية بنحو 17 في المائة بين 2018 و2019، فيما المركز الدنماركي لحقوق الإنسان يفيد أن الحالات كبيرة جدا ولا تسجلها الإحصائيات "لأن المعتدى عليهم يأسوا من الشكوى لعدم أخذ الشرطة القضايا إلى المحاكم". ويعتبر المركز أن الدنمارك تحتاج للأخذ بتوصيته لوضع خطة عمل لمكافحة جرائم الكراهية والعنصرية.

وبالفعل، وتعقيبا على الحادثة الأخيرة، شأن حوادث أخرى، رأى مختصون في القانون أن تطبيق قانون العقوبات على تصرفات وجرائم الكراهية والعنصرية (البند 266 من قانون العقوبات) لا يجري تطبيقه. ورأت البروفسور في القانون، صوفي لين باك، في تصريحات للتلفزة الدنماركية أن "العبارات الواردة في الفيديو تندرج على الأرجح ضمن تعريف القانون لماهية العنصرية، لكن من المؤسف أن البند في قانون العقوبات لا يجرم أن تكون عنصريا إذا ما استخفيت بعدوانية لفظية بمجموعة عرقية وفي مكان عام". ونوهت في الخصوص إلى أن المحاكم أسقطت مؤخرا بعض القضايا بسبب صعوبة إثبات أن التفوهات اللفظية شكلت تهديدا مباشرا للأشخاص الضحايا "وهذه ليست حالة معزولة التي شاهدناها في الفيديو".

المشرع الدنماركي من الحزب الحاكم لا يرى ضرورة لمراجعة تطبيق القانون، ولا يرى بالأساس أن الدنمارك فيها مشكلة عنصرية، رغم تزايد شكاوى حتى مشاهير ولاعبي كرة قدم ببشرة داكنة من تعرضهم لهجمات لفظية عنصرية.

ويتعرض معلقون من أصول مهاجرة على مواقع صحف دنماركية شهيرة، مثل "إنفورماسيون" وغيرها لهجمات لفظية تندرج في تصنيف قانون مكافحة العنصرية، وهو ما حدث سابقا لقدس الحميد وغيرها من الشباب من أصول عربية حين مشاركتهم في تعليق على أخبار بعينها، دونما أن يؤدي ذلك إلى تدخل أحد من الشرطة أو المشرعين لوقف تزايد النبرة العنصرية الواضحة والضمنية في يوميات الدنمارك.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي