رواية الوقوف على قدم واحدة مرثية الموت بالحياة

محمد عبد الرحيم
2021-05-07

لاجئون، أقليات، عابروا جنس، أصحاب بشرة سوداء، ضحايا عنف وحروب وتعذيب واغتصاب. لوحة قاسية لمجهولين تتقاطع حكاياتهم في الرواية الأولى للكاتبة المصرية مونيكا نبيل عزيز، التي عنونتها بـ«الوقوف على قدم واحدة»، الصادرة مؤخراً عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة.

وربما كان مصير هذه الحكايات الصادمة هو النسيان ـ كالعادة ـ ونظراً لعصر الصورة، والأحداث الحيّة التي تفقد التعاطف والاهتمام بعد فترة من التكرار، وكأنها أصبحت أمراً اعتيادياً، ستغيب هذه الحكايات وتتشابه، لكن المؤلفة استطاعت من خلال السرد المتزن لحالات الشخصيات أن تنأى بها عن التكرار، وبالتالي النسيان، لتظل كل حكاية عالقة في الذهن، وشخوصها أكثر تجسيداً من مجرد اسم أو صورة لحظية على شاشة تلفزيون، أو في زاوية مهملة من جريدة، تتصدرها وجوه رؤساء وزعماء ورجال أعمال وقادة حرب، هم في الأساس أصل المأساة.

ضائعون

في الإسكندرية وما كانت تحمله هذه المدينة من تنوع بشري واختلاف وقدرة على التعايش، وبالتالي إنتاج حضارة، تدور أحداث الرواية من خلال باحثة نفسية في إحدى مراكز التأهيل النفسي التي ترعى بالأساس حالات اللاجئين، خاصة السوريين، الذين فرّوا من الحرب بعد الربيع العربي، وحتى لا يقتصر الأمر على الحالات السورية، اتسع المشهد ليشمل بعض الأفارقة، خاصة السودانيين، وبعض الأقليات الأخرى. كل يحمل مأساته التي فرّ بها من بلده، وجاءوا إلى مصر، بدون أن يدخلوها آمنين.

الشخصيات

يُظن للوهلة الأولى أن (ميسون) الباحثة النفسية هي الشخصية المحورية في الرواية، لكنها تتوارى خلف مهنتها، وتصبح في خلفية المشهد إلى حدٍ كبير، تاركة شخوصها أو مرضاها بمعنى أدق هي التي تسرد الحكايات، وبالتالي تتيح لها القدرة على إثارة الدهشة. أما ميسون نفسها، فتكتشف بدورها مشكلاتها، فهي ليست المحللة أو المعالجة النفسية السويّة، لكنها أيضاً تعاني، ولا تستطيع التحقق، ربما في لحظات، ثم تعود سيرتها كحالة أخرى ضمن حالات المكان. فحياتها الزوجية على وشك الانهيار، وهناك علاقة أخرى تلوح في الأفق مع مديرها، لكنها لا تستطيع اتخاذ قرارها، ناهيك من تأثرها بالحالات التي تعالجها، تأثر نفسي وعضوي. ليستمر اللحن المأساوي بعزف نساء ورجال وأطفال تم تشويههم من قِبل أنظمة سياسية، وأعراف وتقاليد اجتماعية استطاعت أن تخلق منهم مرضى، ورغم قسوة الحكايات، إلا أنها مقارنة بالحقيقة مجرد مرور عابر على مثيلاتها من القصص.

فالطفلة السورية ذات الثلاثة عشر عاما، التي شهدت انهيار منزلها وموت أبيها، تريد الانتحار، وسيتم تزويجها في ما بعد لرجل ربما في سن أبيها، تحت مُسمى شرعي ـ الزواج ـ لكنه في الحقيقة لا يفرق عن الاغتصاب شيئا. وآخر تم اغتصابه في السجون السورية، فلا يجد سوى زوجته يوسعها ضرباً، كلما تذكّر ما حدث له. وآخر عابر للجنس، لا يرى روحه في جسده الذكوري، ويرى حياته مجرد خطأ مطبعي، وعليه أن يدفع ثمن خطيئة لا شأن له بها، وسودانيات تم اغتصابهن في مصر، وسخرية مريرة من لونهن المختلف، تعذيب يومي لا ينتهي، وهكذا تتواتر الحكايات كاشفة عن زاوية أخرى، متمثلة في مدى العنصرية والعنف الذي يتسم به المجتمع المصري، رغم أغنيات المحبة وكرم الضيافة، ولافتات أطيب وأحن شعب في الوجود يااااا مصر.

البناء الروائي

حاولت الكاتبة أن تضفي شيئاً من التوثيق، بأن تذكر بعض البيانات المعتمدة، وكذلك مصدرها، حتى تتكامل صورة الواقع الذي تتحدث عنه، وإن جاءت هذه البيانات ليست بمستوى السرد الروائي، صفحات قليلة مفردة، كان من الممكن أن تأتي كهامش أخير في الرواية، خاصة أن كل فصل من فصول الرواية الأربعة لا يعتمد استراتيجية السرد والتوثيق المُتبادل ـ نحن لسنا في ذات صنع الله إبراهيم على سبيل المثال ـ ومن أمثلة ذلك .. «في نهاية عام 2016 وصل عدد اللاجئين السوريين فقط المسجلين في مصر إلى 116013 لاجئا (مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين). 34% من النساء اللاتي سبق لهن الزواج تعرضن لعنف بدني أو جنسي من قِبل الأزواج (تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ومجلس السكان الدولي). هناك حوالي 20000 عملية اغتصاب تحدث كل عام في مصر (وزارة الداخلية المصرية/2008).

الراوي

تأرجحت وجهة نظر الراوي ما بين شخصية المعالجة النفسية، وبعض شخصيات الرواية ـ وجهة النظر السردية، وليست ضمير السارد ـ فيتم الحكي عن الشخصية مثلاً بضمير الغائب، وقد تستلم الشخصية فعل القول بعد ذلك، لتأتي المؤلفة ـ صوتها السارد ـ ليحكي عن مواقف لهذه الشخصية أو تلك، وهي في حالة فعل لا حالة تذكّر، فكيف رأتها، ولم تشر من بعيد أنها/المؤلفة قد تخيلت ماذا تفعل الشخصية في هذا الوقت أو ذاك، الأمر أشبه بمن يتذكّر موقفاً في فيلم سينمائي، بدون أن يكون حاضراً هذا الموقف. وهو ما أدى إلى إرباك حالة السرد، لكن قوة الحكايات ولغة الشخصيات طغت على الارتباك السردي هذا.

التهويمات والمنولوجات

ما أن تبدأ ميسون في سردها عن حياتها ومهنتها وآثارها على روحها ووجودها، حتى تهدأ تماماً طاقة وشحنة الحكاية ـ مقارنة بحكايات الشخوص ـ هنا ندخل في منولوجات ومصطلحات، وشرح ثقافي تأملي لما يحيط بالعالم، واللغة المثقفة المتعالية ستخسر دوماً أمام لغة الناس العادية.. «كان ذلك لغزاً فلسفياً قديماً يسمى بفرضية (حجة الحلم)، التي كتب عنها العديد من الفلاسفة. هل ما أحياه الآن هو وهم أم حقيقة؟ وإذا كانت حواسي تعمل بذات الكفاءة أثناء الواقع كما هي أثناء الحلم، فلماذا نعتبر أن عالم الحلم (المُحدث ذهنياً) ليس عالماً واقعياً».

ليُكتشف أو يثور تساؤل .. هل كانت الشخصية تحمل همّاً بالفعل؟ خاصة وقد بدت تائهة وسط الشخصيات الأخرى التي تمتلك حياة صاخبة، جديرة بالحكي عنها؟ «لا يمر يوم بدون مضايقات. لا يمر يوم بدون تعليقات سخيفة على ملابسي الملونة وشعري المستعار. لا يمر يوم بدون تحقير من لون بشرتي السوداء، وأنفي الأفطس وفمي الغليظ. ولا يمر يومان بدون أن يحاول أحد المارة أن يلمس صدري أو مؤخرتي».

هذا ما تكشفه الشخصيات المُكمّلة للرواية.. ميسون، زوجها (شهاب)، صديقتها المعالجة (تُقى)، مديرها الإنكليزي (ثيو)، التي تبدو باهتة إلى حدٍ كبير، وكأنها ظلال خافتة أو أشباح لأموات على قيد الحياة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي