سينماتشكيلمسرحموسيقىتلفزيوننجوم أخبار فنيةلحنشاهدنحتسينما الخيال العلميرأي فنيأفلام وثائقيةمهرجاناتأفلام وجوائز

الفن بوصفه طريقاً إلى العبودية المُختارة

متابعات الأمة برس
2021-04-10

 الفن الحديث ليس من الأساسيات في الحياة العربية، ما نعرفه عنه لا يعدو أكثر من لوحات أو أعمال تعرض في متاحف مغلقة، لا يرتادها سوى ندرة من الناس، لذلك نُصادف باستمرار عرباً مندهشين من قراءة خبر، أو مشاهدة نبأ على تلفزيون يفيد بأن لوحة أو عملاً، قد بيع في مزاد بملايين الدولارات، لا بد أن يستغرب الناس أمراً مثل ذلك، فالفن في الغرب ليس كما هو الحال عند العرب، ومن يتورط في ذلك السوق، ويرضى بقوانينه فعليه أن يترقب الحلو والمر،ّ قد يكسب ما يعجز عن حسابه، قد يخسر والأسوأ من ذلك قد يصير هو نفسه سلعة فنية، كما حصل مع بطل «الرجل الذي باع ظهره» المرشح للأوسكار (فئة الأفلام الأجنبية) للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، التي جعلت من توحش مزادات الفن في الغرب مادة لها وربطتها بالوضع الدامي في سوريا مطلع 2011.

ينطلق سيناريو الفيلم من مشهد البطل سام علي، في القطار، بصحبة حبيبته عبير، وهو يصرخ أمام الراكبين: «نحن في زمن الثورة..» في إشارة منه إلى أن ثورته إنما ستكون زواجه من عبير، الذي تعسر عليه، بحجة فوارقهما الاجتماعية، تلك الجملة سوف تعرضه إلى ملاحقات بوليسية، يفر من سوريا إلى لبنان، للعمل في مزرعة دواجن، متردداً على غاليرهات الفن قصد قضم بعض الأكل، مدعياً أنه من بين المدعوين، قبل أن يلاقي فنانا بلجيكياً اسمه جفري، يعرض عليه أن يرسم وشماً على ظهره، في صورة تأشيرة شنغن، وينتقل إلى عرض ظهره في واحد من متاحف بروكسل.

لم يتردد سام في قبول العرض، مقتنعاً بأنها حيلته الوحيدة للوصول إلى بلجيكا واستعادة عبير، التي كانت قد تزوجت موظفاً في السفارة السورية هناك. يبدو من الوهلة أن فكرة السيناريو ليست أصلية، بل مقتبسة من قصة حقيقية، عندما قام الفنان البلجيكي ـ المثير للجدل ـ ويم دالفوا برسم وشم على ظهر شاب سويسري يدعى تيم ستاينر، وشم يمثل مريم العذراء تعلوها جمجمة، مع ديكور يحيط بهما، اقتضى العقد بين الفنان والرجل الذي منح ظهره للرسم، أن يدفع الأول للثاني مبلغا معتبراً، على أن يبقى تحت تصرفه، ويرافقه إلى معارض، والغريب في الأمر أن العقد يقتضي أيضاً في حال وفاة تيم ستاينر أن يسلخ جلد ظهره، كي يظل الوشم في العرض، ذلك ما يحصل في سوق الفن العالمي ـ الذي نجهل عنه الكثير ـ وذلك ما تم الاتفاق عليه بين سام علي والفنان في فيلم «الرجل الذي باع ظهره» لكن ما يحسب للمخرجة بن هنية أنها وضعت فيلمها في سياق عربي، انتقت بطلاً عربياً، مستمداً من بطن سوريا المشتعلة عام 2011، وبدل أن تغرق في البكائيات عن حال سوريا والسوريين، ووضع اللاجئين، جعلت من شخصية سام (الممثل يحيى ميحاني) شخصية إيجابية، بطلاً حديثاً، يعرض صورة لائقة مخالفة عن ذلك السواد الذي غالباً ما يُرافق أي حديث عن المهجرين والنازحين السوريين.

فيلم «الرجل الذي باع ظهره» حيث تلعب مونيكا بيللوتشي دور (ثريا)، متوارية خلف باروكة شقراء، منتحلة لكنة شامية، في أحد الحوارات، لم يخل من المحمول السياسي، رغم أنه تفادى إظهار العنف الذي ساد سوريا آنذاك، ولم يسقط في تكرار مشاهد الموت والفزع، بل إن مشاهد اعتقال واستنطاق شخصية سام مرّت سريعا، فإنه تضمن إدانة للغرب، فقبول البطل بأن يتيح ظهره للفنان البلجيكي، إنما الغرض منه كان الحصول على تأشيرة شنغن، ذلك أقصى ما كان بإمكان الأوروبيين أن يقدموه للفارين من الحرب، وحال وصوله إلى بلجيكا سوف يصير سلعة، يرضى بالجلوس في متحف وأن يشاهده الناس وهو يدير لهم ظهره، أولئك الأوروبيين لم يكن يهمهم شيء من حياة العربي، ولا ماضيه ولا أصله، بل يهمهم أن يظل مثل (تحفة) للأنظار، أن يقدم خدمة، أن يكون سبباً للفرجة، ذلك ما ودت بن هنية إيصاله، بأن العربي حين يرضى بصفقة مع غربي فعليه أن يتخلص من إنسانيته، أن لا يبالغ في الدفاع عن القيم والمبادئ التي تعلمها في الكتب المدرسية، أن يستسلم إلى ما يُفرض عليه، مقابل أن يعيش، أن يأكل ولا يتسول، بل إنه في منتصف الفيلم سوف يُباع إلى جامع تحف سويسري، ويعرض في فيلاته، لكن لم يكن سام ليفعل ما فعل لولا إخلاصه لمن يحب، فإن يتحول من بشر إلى مجرد تحفة فنية، كان نظير أن يستعيد حبيبته عبير، وقد أفلح في النهاية بأن خلصها من زوجها الذي ارتبطت به غصباً، وحقق ما كان يرجوه، والثمن كان جلد ظهره.

هذا الفيلم الذي ينتقل ـ بسلاسة ـ من مشهد درامي إلى آخر ساخر، يستعيد قضية اللاجئين السوريين من منظور غير مسبوق، بينما الآلاف منهم يُغامرون صوب البحر للوصل إلى أوروبا، بعض المحظوظين منهم يسافرون في الطائرة مثل سام، وهؤلاء إن كانوا يضمنون وصولا بدنياً سالماً إلى وجهتهم، فإنهم يفقدون في الطريق أو حال وصولهم شيئاً من حريتهم، من شخصيتهم، من ماضيهم، كما نعرفه في ذلك المشهد حين يرى سام أمه، وهو مستلق في سرير في فندق خمسة نجوم، يحادثها بالسكايب، وقد بتر ساقاها عقب نجاتها من تفجير في سوريا.

إن قضية اللاجئين السوريين كانت العصب الحساس الذي لعبت عليه كوثر بن هنية بنجاح، صوّرتهم في شغفهم بالحياة وبالحب، وأظهرت ما يمكن أن يخسرونه في اندفاعهم نحو بقاع آمنة. هناك جملة تستحق أن نتوقف عندها نطقتها شخصية الفنان جفري في الفيلم: «إذا كان البشر يصعب عليهم السفر عبر الحدود، فإن السلع يسهل عليها ذلك» من هنا قرر أن يحول شخصية سام إلى سلعة، فإن كان ما يعيشه السوريون مأساة إنسانية، لا يحسدهم عليها أحد، فمن المحتمل أن تتحول تلك المأساة أيضاً إلى مكسب تجاري، مثلما تكسّب جفري من ظهر سام.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي