رسائل حب بخط يدي!
2020-05-09
غادة السمان
غادة السمان

يعرض التلفزيون الفرنسي باستمــــرار أساليب الوقــاية مــــن وباء كورونا و(يعلمنا!) طريقة غسل أيدينا وأصابعنا بإتقان.

وشاهد المتفرجون على القناة 5 الشجاع فيليب كواسون يحرض على ذلك بيديه المقطوعتين حتى الكوع، كما ذكرت مجلة «فواسي» الباريسية منذ شهر، ونشرت صورته.. فهذا الرجل مقطوع اليدين والقدمين سبق له أن قطع بحر المانش سباحة، وها هو يشجع اليوم على اتقاء مرض كورونا قائلاً إن الذين لا يغلسون أيديهم جيداً لا يدرون أي حظ لهم بوجود يدين بأصابع لديهم.. ويقول مداعباً، إنه كان يحب أن يريهم طريقة غسل اليدين بإتقان. ولكنه بلا أصابع ومقطوع اليدين!

من طرفي، أعترف أنني أكنّ احتراماً كبيراً وإعجاباً بأصحاب (العاهات) الذين لا يختفون خجلاً مما أصابهم، بل يواجهون العالم بعاهاتهم بشجاعة. وتحية لأمثال فيليب كواسون، الذين يذكّرون بروح فكاهية بضرورة غسل يدين يفتقدونها!

 ميمي الشجاعة بدلت صورة الأقزام

صورة القزم في السينما الأمريكية لا تخلو من السلبية، بل والإساءة إلى إنسانيتهم. كان القزم الشرير غالباً وكأنه ينتقم من عاهة تلازمه.. قصر قامته. في فيلم لجيمس بوند مثلاً، ويدعى «الرجل ذو المسدس الذهبي»، نجد القزم شريراً كسيده المجرم، ومثله يستمتع بإيذاء الآخرين بل وشارك في ذلك بدس السم أو إطلاق النار للقتل، وغير ذلك. وعلى النقيض من ذلك، تعاملت السينما الفرنسية والمسلسلات بنظرة إنسانية إلى الرجل القزم (أو المرأة)، ولم يعد المارة يتحاشون المرور في الشارع إلى جانبه (جانبها)، بل صاروا على العكس.. على استعداد لتحيتهم. وتلعب القزمة الممثلة ميمي ماتي دوراً كبيراً في تبديل النظرة إلى الأقزام، وبالذات في سلسلة أفلام (الملاك الحارس) من بطولتها، وفيها نرى ميمي ماتي القزمة الفرنسية في صورة «ملاك حارس» من السماء يساعد الناس على تحقيق أمنياتهم التي تبدو مستحيلة، ولكن شرط أن تكون تلك الأمنيات غير مؤذية لأحد، بل تريد مساعدة أبرياء.

 صدفة خير من ألف ميعاد

التقيتها مرة قبل أعوام مصادفة في (غاليري لافاييت) الباريسي، (فرع البقالية) وكنت واقفة في انتظار البائع، إذ لم أجد على (بسطته) خضرة معينة. والتفت خلفي فوجدت ميمي ماتي في انتظار دورها بعدي، وهي تجر عربة التسوق التي تكاد تكون أكثر طولاً منها!.. عرفتها طبعاً ولم أعرض عليها أن تمر أمامي كي لا أهينها بصفتها قزمة بحاجة إلى المساعدة.. وانتظرتْ دورها كالناس جميعاً، وترك ذلك أثراً جميلاً في نفسي. وجدتها إنسانة طيبة وغير متكبرة ولا تلعب في حياتها دور (النجمة) بل الإنسانة. وألغت نهائياً دور الأقزام في السيرك لإدهاش الناس بخلقتهم المختلفة. نجحت ميمي ماتي في تبديل صورة القزم والقزمة، وصار الناس ينظرون إليهما كما هي الحقيقة: مجرد أشخاص أقل طولاً من الآخرين.

إذا كتبت ميمي ماتي مذكراتها فسأكون من الذين يتحمسون لمطالعتها، فهذه المرأة قاست الكثير بالتأكيد ريثما فرضت بشجاعة على الناس النظر إلى الأقزام كبشر مثلهم أقل طولاً، وهذا كل شيء.

وهكذا سجلت السينما والمسلسلات الفرنسية تفوقها على الأمريكية في هذا الحقل الإنساني.

 جمالية الشجاعة والضرير المقعد

 الفرنسي المصري ناجي صار نجماً ومقدم برامج تلفزيونية فضائية ناجحة، منها: «تاراتاتا»، و«لا تنسى كلمات الأغنية» وهو برنامج يأتيه أي كان ويغني شرط أن يعرف كلمات الأغنية الفرنسية كلها ويربح مالاً بالتالي. والمشتركون في البرنامج يغنون وهم يرقصون على الإيقاع، ومعظمهم من الشبان الصغار والشابات. ومنذ يومين لاحظت أن أحد المشتركين في البرنامج جاء على مقعد متحرك، وبعدما غنى مشاركاً في البرنامج، شكر الذين رقصوا على ألحان ما يغنيه قائلاً: أنا لا أراكم، لكنني أشعر بزخم حيويتكم ومدّني ذلك بالقوة!

كم احترمت هذا المسن الضرير المقعد الذي لم يختبئ في بيته بل جاء إلى شاشة التلفزيون مشاركاً في الحياة الفنية بكل شجاعة، وذلك يدعو للإعجاب.

رسائل حب مني بعشرة آلاف دولار!

عاملة منزلية في بيت بعض أصدقائي في بيروت سَمِعَتهم يقولون إنني كاتبة جيدة، وحين ذهبتُ لزيارتهم قالت لي، وهي الأمية: أرجوكِ، اكتبي رسالة لابني وقولي له حبي وشوقي، فقد يتصل بي هاتفياً على الأقل!

وحزنت لألمها، وكتبت لها رسالة حب لابنها العاق الذي ترسل راتبها له. رسالتي على لسانها، بدأتها بعبارة «يا حبيبي دائماً، ليس في العالم من أحبه سواك»، وهو شعور كل أم نحو ابنها/ابنتها.

ولا أدري لماذا تخيلت الابن العاق يمزق رسائل أمه له (التي كتبتها أنا) دون أن يقرأها بعد أن يأخذ النقود: راتب تلك الأم الكادحة المسكينة!

وكلما زرت أصدقائي حيث تعمل، كانت تتوسل لي أن أكتب رسالة حب (منها) وأظن أنها أجمل رسائل حب كتبتها في حياتي. كان ذلك كله قبل أن أنشر رسائل غسان كنفاني لي، حيث انفجر الكتاب كقنبلة أدبية.

يومها عرضت أحدى دور النشر على صديق حميم لي ولغسان كنفاني هو ع.س (جاء ذكره في رسائل غسان) أن تشتري منه رسائلي إليه في تلك المرحلة بمبلغ عشرة آلاف دولار. قلت له: بعها لهم فأنت مفلس! قال: احترقت في الحرب. قلت: سأكتب لك سواها الآن لتبيعها وتربح نقوداً وأنت رقيق الحال. رفض بكل إباء.

تذكرت «رسائل الحب» التي كتبتها لابن تلك (الخادمة). هل كان يمزقها كما تخيلت، لامبالياً بأمه المسكينة التي تموت شوقاً لسماع صوته أو لوصول رسالة منه؟

ذلك الابن الجاحد، ألم يكن يدري أني لم أكتب يوماً رسائل حب بخط يدي كتلك التي كتبتها إكراماً لأمه ويجهل أنه كان في وسعه أن يبيعها لدار نشر ما بآلاف الدولارات؟

كأنه تلقى عقاب العقوق، إذ إنه لم يزعج نفسه حتى بالاتصال بأمه والسؤال عن حالها أو السؤال عمن يكتب لها رسائل الحب تلك كلها على لسانها. وخسر الابن العاق عشرة آلاف دولار! ولم يؤسفني ذلك!



مقالات أخرى للكاتب

  • سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي