سبحان مغيّر الأحوال
2020-04-01
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

كورونا ليس فيروساً وبائياً قاتلاً فقط، فهو تغيرات جذرية في النّظم وفي أنماط الحياة، وتحولات في البنية الذهنية المجتمعية. ما حدث في الجزائر مهم جداً ويقطع العلاقة نهائياً مع كل الممارسات الثقافية السابقة التي حكمتها المنظومة الفكرية السياسية وحتى العسكرية المتسيدة.

كل حياتنا ومؤسساتنا وشوارعها تنضح بذلك: مطار هواري بومدين، شارع ديدوش مراد، عميروش، العربي بن مهيدي، شارع حسيبة، ملعب 5 جويليه، ساحة المعدومين…

ما عشته كان ثورة حقيقية غيرت كل المسبقات التي كانت لدي عن النظام، وأنه مرتبط بشكل مرضي بتاريخ هو صنعه وكأن الجزائر لم تعش غير تلك الحقبة. فجأة تغير كل شيء وكأن الذاكرة الجمعية التفتت أخيراً إلى حاضرها، وكنست العادات القديمة الميتة، بدل أن تظل مثبتة في ماض انتهى منذ أكثر من نصف قرن.

كل شيء بدأ هكذا. عندما بدأت الطائرة في عملية الهبوط، سمعت في اللحظة نفسها المضيفة وهي تعلن: لقد شرعنا في الهبوط التدريجي على مطار الجزائر العاصمة كاتب ياسين، الدولي. الرجاء أن تشدوا أحزمتكم وتعدلوا ظهور مقاعدكم. تملكتني سعادة غامرة وفخر غير مسبوق. حتى مصر لم تفعل هذا مع نجيب محفوظ. مطار الجزائر الجديد جميل وواسع، خضع لهندسة أندلسية محكمة مع الممرات ونافورات المياة في كل مكان. وأنت تسير في البهو ينتابك شعور كأنك في ممرات مسجد قرطبة أو غرناطة أو إشبيلية. أما قاعة انتظار المسافرين القادمين، فقد أخذ تصميمها من القاعات الأندلسية الملوكية المليئة بالألوان المتناغمة التي يغلب عليها اللون الآجوري، إضافة إلى النور الذي يأتي من الأسطح مثل المساجد القديمة التي تفتح أسطحها على السماء. لقد رفض فخامته الهندسة الحديدية الجاهزة واختار البناء القديم والحديث معاً، تماماً مثل المسجد الكبير الذي اختير مقترح غارسيا الإسباني العاشق للمعمار الأندلسي، ورفض التصميم الألماني الذي يجعل من المسجد كتلة اسمنتية صماء. قرارات فخامته بتسمية المطارات الجديدة بأسماء الكتاب والفنانين جاء في سياق إعادة الاعتبار للثقافة الوطنية التي شهدت انهياراً كبيراً منذ الاستقلال. سبقتها حملة كبيرة لإعادة تأهيل قبور الفنانين الكبار: أحمد وهبي الذي احتضنته الدولة حتى وفاته، عبد القادر علولة، فضيلة دزيرية، الشيخ ريمون، عيسى الجرموني، أليس فيتوسي…

كان خطاب فخامته حدثاً ثقافياً وطنياً ودولياً غير مسبوق، إذ قال يومها: لا بد للثقافة أن تحترم رجالها الذي أوصلوا سمعة البلاد إلى الخارج. لقد درجنا على طريقة تسمية مطاراتنا بأسماء شهداء، حتى الذين استشهدناهم نحن بأسلحتنا الباردة: كريم بلقاسم، محمد خيدر، محمد بوضياف، عبان رمضان، ومناضلينا وسياسيينا الكبار. المرحلة الثورية انتهت ودخلنا في مرحلة جديدة، مرحلة المواطنة الصرفة والثقافة. وآن الأوان لتكريم كبار هذه الأمة بما يستحقون. أنا لا أفهم كيف لم تسم أوبرا العاصمة باسم إيڤربوشن؟ ونسمي المكتبة الوطنية باسم الطاهر وطار، والباستيون 23 بمراد رايس؟ تصحيح المواقع بما يتناسب ووظيفتها الأصلية، لهذا صدرنا مرسوماً بتسمية زنيت قسنطينة باسم الموسيقي العظيم والجليل ابن قسنطينة الطاهر فرڤاني، شيخ المألوف.

ودار الموسيقى باسم الشيخ ريمون، هو ابن الجزائر أولاً وأخيراً. البلاد تغيرت وتعتز بكل أبنائها كيفما كانت ديانتهم. والمسرح باسم رشيد القسنطيني، وووو… لم أكن قادراً على تصديق ما كنت أسمعه من فم فخامته. وأضاف: وبيت الشعر باسم جون سيناك، الذي نقلت رفاته لتوضع في باحة بيت الشعر الواسعة والمشجرة التي أعيد تأهيلها. واتحاد الكتاب باسم مؤسسه الأول مولود معمري. تم تغيير اسم مطار تلمسان من مسالي الحاج، مؤسس الحركة الوطنية، باسم المطار الدولي محمد ديب. ومطار قسنطينة باسم مطار رضا حوحو الدولي. كان لا بد من عقلنة هذه الأسماء، لا يمكن أن ترمى كيفما اتفق.

وبالنسبة لوهران سمينا المطار ألبير كامو، فهو ابن الجزائر، ومطار بجاية باسم الطاهر جاووت، بينما دار الموسيقى الكبرى أصبح اسمها معطوب الوناس. جامعة الجزائر أطلق عليها اسم موريس أودان، ثم ختم فخامته: «التسميات استحقاق وليست هدايا».

لكن لهذه القصة قصة أخرى. كان فخامة الرئيس المنتخب قد ذكر في حملته أنه سيعيد الاعتبار للثقافة الوطنية والفنون، وسيقتطع خمسة في المئة من موازنة وزارة الدفاع، وخمسة بالمئة من موازنة وزارة المجاهدين، حتى إنه أضاف بأنه يفكر في حلها بشكل تدريجي وتعويضها بجمعية تهتم بالشأن التاريخي. الشهداء ماتوا، ونساؤهم لحقن بهم.

المجاهدون الحقيقيون ارتحلوا، ولم يبق إلا مجاهدو الساعات الأخيرة، الطابور السري، هؤلاء سيرجعون كل ما أخذوه بغير حق. الإحصائيات أظهرت أنهم سرقوا المال العام وعددهم أكثر من الشهداء والمجاهدين مجتمعين. وسيوقف فخامته منحة أبناء الشهداء أيضاً لأن آخر هؤلاء الأبناء أصبح جداً لا ينطبق عليه مفهوم ابن الشهيد. المواطنون سواسية، الأمر الذي سبب غضباً كبيراً، لكن الارتياح الشعبي كان أكبر. وهكذا تصبح ميزانية الثقافة 15 في المئة بعد أن كانت منذ الاستقلال لا تتجاوز الواحد في المئة حتى في أيام الرخاء النفطي. وبالفعل، نفذ فخامته ما وعد، وبمجرد وصوله إلى الحكم كف عن استقبال السياسيين واستدعى نخبة من المثقفين، وكنت أحدهم.

عندما دخلت عليه، عانقني بحرارة وهو يقول: واسيني، نحن فخورون بك وبما تقوم به، أنت تمثل بلادنا أحسن تمثيل، ما سرّ زيارتك الأخيرة لجزيرة كريت؟ ماذا أعجبك فيها؟ قلت صغرها ودفئها. فجأة تذكرت شيئاً مهماً، فأضفت: سيدي الرئيس، عندما شرعت الطائرة في النزول على كريت سمعت المضيفة تقول: لقد شرعنا في النزول على مطار نيكوس كزانتزاكي، أصبت بسعادة غامرة كادت تقتلني، تذكرت مطار فيمانشينو ليونار دافنشي. برقت عينا فخامته: قصدك صاحب رواية زوربا، والمسيح يصلب من جديد، غواية المسيح الأخيرة ووو. نعم يا سيدي الرئيس. سعيد أننا نتكلم لغة متقاربة. قال وهو يبتسم، وعد مني، سنفعل أكثر من ذلك. ساعدوني فقط لرفع قيمة الثقافة. قلت في شكل تمتمة شكراً سيدي الرئيس. وغادرت قصر الرئاسة فخوراً بأن رئيسنا يقرأ، ويفكر في تسمية معالم البلاد بأسماء مثقفين وليس باسم الساسة والعساكر.

عندما ارتطمت عجلات الطائرة بأرضية مطار الجزائر، فتحت عيني عن آخرهما، وابتسامة فرح ما تزال مرتسمة علي شفتي. كانت المضيفة الأنيقة تنظر إليّ بمحبة: يبدو أن حلمك كان جميلاً، هززت رأسي بالإيجاب. كانت الطائرة تسير نحو مكان توقفها. فجأة رأيت بريق الأضواء ومن ورائه ارتسم: مطار هواري بومدين يرحب بكم، بحروف بارزة ومضيئة.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي