يوسف إدريس: ضحية أم له ضحايا؟
2020-03-14
غادة السمان
غادة السمان

لفتني عنوان كتاب شعبان يوسف: «ضحايا يوسف إدريس وعصره»، واستطعت الحصول على نسخة منه في باريس، فالمبدع الكبير يوسف إدريس كان صديقاً لزوجي ولي، وأجده أحد الذين ظلمهم الإعلام العربي!

هاجَموه بعنف لأنه لم يكذب!

حين حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل التي كان يتوقعها يوسف إدريس لنفسه، غضب غضباً شديداً، ولم يُخف إدريس رأيه بأن محفوظ نال الجائزة بسبب مواقفه السياسية من إسرائيل وتأييده لكامب ديفيد. وانضم كثيرون إلى رأيه. يوسف إدريس لم يكن يتقن فن إخفاء صدقه ومشاعره، ولم يخف مدى (غيرته) من حصول محفوظ على الجائزة التي كان مقتنعاً بأنه يستحقها وحرم منها لأسباب سياسية، وهاجمه كثيرون على موقفه هذا وسخروا منه، وبينهم نقاد عرب معروفون ورأيهم محترم.

من سمع بروايته «البيضاء»؟

وعن «دار الطليعة» في بيروت، أصدر يوسف إدريس رواية اسمها «البيضاء». وصدرت الرواية ولم تنل، للأسف، أي نجاح، حتى أن البعض لم يسمع بها لعدم رواجها على الرغم من الاسم الكبير لمؤلفها. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الرواية رديئة، وفي تاريخ الأدب شواهد على أعمال مبدع لم تحظ باهتمام معاصريها، لكن الأجيال التالية عرفت قيمتها.

يوسف إدريس الإنسان!

كنت أجده خفيف الظل، يتمتع بالطيبة المصرية المحببة الذكية والسخاء بالنفس.

وهكذا كانت صداقتنا العائلية معه مبعث سعادة لنا. وما يكاد يصل إلى بيروت إلا ويتصل بنا هاتفياً من فندقه الذي كان يحل فيه كلما زار بيروت ويقع في آخر شارع بلس (الشارع الذي تقع فيه الجامعة الأمريكية في بيروت) وهو فندق مقابل للمنارة قبل نقلها (وما زال موجوداً). وكنا نمر بيوسف لنذهب معاً للغداء في أحد مطاعم (الجبل) المطلة على بيروت وبحرها ولها منظر خلاب. وذات مرة، مررنا به ولم يكن في انتظارنا كعادته في دقة مواعيده معنا، لكنه ترك لنا خبراً بأنه ذهب إلى المكتبة المجاورة (مكتبة العم سميح) ليشتري الصحف. وعاد بعد دقائق وهو يحمل المجلات والصحف اللبنانية كلها، وقال لنا إنه يستمتع بقراءتها لما فيها من حرية القول، حيث لكل صحيفة رأيها وموقفها.. وأضاف ضاحكاً: إنه لخوفه وقلة ألفته مع الحرية يطالعها سراً تحت السرير!.. وكأنه بذلك على ما أظن يذكرنا بمنع مسرحيته (المخططون) ذات ليلة.

«عايزة تقتل عريسها!»

في زيارة لنا إلى القاهرة، زوجي وأنا، بعد زواجنا بفترة قصيرة جداً، أصيب زوجي بنزلة صدرية. وبما أنني لا أعرف طبيباً في القاهرة غير يوسف إدريس، اتصلت به وطلبت منه الحضور إلى (هيلتون النيل) لمعالجة زوجي، ولم أكن أدري أنه توقف عن ممارسة الطب منذ زمن طويل! وجاء يوسف، وقرر معالجة زوجي.

وهبطنا معاً في المصعد إلى مركز طبي كان موجوداً في الفندق، وحصل يوسف إدريس من هناك على حقنة طبية وبقية المطلوب للعلاج، وبعدها بأيام اتصل أحمد بهاء الدين بي هاتفياً وقال لي إن الأوساط الثقافية في القاهرة تضحك مني لأنني طلبت من يوسف إدريس معالجة زوجي وهو الذي توقف عن ممارسة الطب منذ زمن طويل، ويقولون ضاحكين «إنني أريد قتل عريسي»!

وقلت لأحمد بهاء الدين: بلغهم أن زوجي قد شفي بعلاج إدريس له، فقال أحمد بهاء الدين ضاحكاً: لا بفضله بل على الرغم منه!

الجائزة مناصفة؟ لا..

جائزة أخرى غير نوبل كان يوسف إدريس يعتقد أنه يستحقها وحده، وهي جائزة صدام حسين الأدبية (بمبلغ كبير)، لكنه نالها مناصفة مع الأديب جبرا إبراهيم جبرا، وغضب يوسف إدريس. وككل أصحاب المزاج الصادق الطفولي، أعلن غضبه على تقسيم الجائزة، وأنا أعتقد من رسائل يوسف إدريس لي أنه كان في حاجة إلى المال لعلاج أحد أفراد أسرته، ولدي رسائل أخوية منه يصارحني فيها بمتاعبه. ولكن البعض لا يتحمل الجائزة مناصفة إذ يجدها أيضاً تنتقص من قيمته الأدبية، وأتذكر الآن بامتنان الشاعر يوسف الخال صاحب «مجلة شعر» الشهيرة، يوم منحنا رئيس الجمهورية اللبنانية جائزة الإبداع مناصفة، وكانت تقدمها «جمعية أصدقاء الكتاب»، وكتب كلمة طيبة في «جريدة النهار» يرحب بي كشريكة في الجائزة! وكنت في بداياتي الأدبية.

المبدع المتواضع إنسانياً

مرة جاء يوسف إدريس للمحاضرة في بيروت، وذهبت للاستماع إليه برفقة صديقتي الحميمة بلقيس الراوي (زوجة نزار قباني) الذي رفض مرافقتنا لأنه (بيتوتي)؛ أي يحب البقاء في البيت، على الرغم من الإعلام الذي ظلمه هو أيضاً وصوره (زير نساء)، ورافقتنا صديقة لبلقيس من أسرة عراقية معروفة، وأجلسونا في الصف الأول في محاضرة إدريس، وأنا أحب الصف الأخير لأستطيع الهرب إذا لم يرق لي الأمر! وحين أنجز يوسف إدريس محاضرته، جاء وحيانا بكل تواضع رغم التفاف الحضور حوله.

شكراً شعبان يوسف

استمتعت بقراءة كتاب شعبان يوسف «ضحايا يوسف إدريس وعصره» عن دار (بتانة)، فقد ملأ ثغرات في معرفتي بصديق لا ينسى هو يوسف إدريس، وأيقظ ذكرياتي النائمة في أحضان الزمن الهارب، واستطاع شعبان يوسف أن يكون موضوعياً في موضوع يصعب فيه ذلك. وهو ثري بالحقائق والوقائع والشواهد والعدالة النقدية، حيث المقياس لدى شعبان يوسف ليس الشهرة ولا النفوذ ولا النجاح، بل النص أولاً.. ويلقي الضوء على معلومات يجهلها بعضنا (ولعلي منهم)؟



مقالات أخرى للكاتب

  • سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي