المستقبل للغاز  
2024-03-05
أنس الحجي
أنس الحجي

 

الفكرة ليست جديدة على قراء هذا العمود الأسبوعي، إلا أن مستجدات اقتصادية وسياسية أكدت صحة هذه الفكرة، وهي أن الغاز لم يعد جسراً للمستقبل، وإنما هو المستقبل.

جاء هذا بعد عامين من الحرب الروسية- الأوكرانية والتحولات العالمية في أسواق الغاز، وإدراك السياسيين في بعض الدول، منها ألمانيا والهند، ضرورة العودة إلى عقود الغاز المسال طويلة المدة لضمان أمن الطاقة.

وكما ذكرت في مقال سابق بعد حرب موسكو- كييف، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشكل غير مقصود، خلف تأخير سياسات التغير المناخي في أوروبا من سبع إلى ثماني سنوات، والآن تعلن كبار البيوت الاستشارية أن الصراع في أوكرانيا آخر سياسيات التغير المناخي بنحو 10 سنوات!

يتمتع الغاز بصفات غير موجودة في النفط والفحم، أهمها استخداماته العديدة والقدرة على التعامل معه بأشكال مختلفة، إضافة إلى أنه أقل إصداراً للانبعاثات. ولعل الذي يجعله وقود المستقبل أيضاً وفرته وخفض أسعاره وأمور أخرى، وكل هذه الصفات تجعله الخيار الوحيد والأمثل اقتصادياً وسياسياً.

تاريخياً، كانت سوق الغاز محدودة بالأنابيب لكن تطور تقنية الغاز المسال مكنت من نقله بحراً إلى أي مكان في العالم. وتطور تقنية الغاز المسال في السفن العائمة يعني إمكانية استغلال الغاز في أي مكان، واستخدامه في أي موقع، حتى لو بكميات قليلة نسبياً، كما أن تطور الأسواق من عقود طويلة المدة إلى أسواق فورية، ثم إلى أسواق مستقبلية يعني تحول سوق الغاز تدريجاً من محلية وإقليمية إلى دولية.

ويتضح من التطورات الأخيرة حدوث تطور في نوعية العقود إذ أصبحت الدول المنتجة أكثر مرونة من حيث طول المدة وبعض الشروط الأخرى، خصوصاً المتعلقة بإعادة البيع. وهذه المرونة تعزز من قوة أسواق الغاز، وتجعلها أكثر قبولاً.

ونتج من الزيادات الكبيرة في إنتاج الغاز المسال وصادراته زيادة أنشطة بناء حاملات الغاز المسال، مما أدى إلى زيادة الكفاءة في إنتاج هذه السفن وتخفيض تكاليفها.

في ضوء كل التطورات في أسواق الغاز المسال، هناك ميزة أخرى وهي أن الدول التي تحتاج الغاز فصلياً، ولمدة شهرين أو ثلاثة فقط في السنة، تستطيع استيراد الغاز وإعادة "تغويزه" (تحويل أكبر جزء ممكن من الطاقة المخزونة في الوقود الصلب إلى الحالة الغازية) على ناقلة، ودفع الكلف فقط لتلك الفترة، بعدها تغادر الناقلة إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية وتقديم خدماتها لدولة أخرى هناك.

التحول الطاقي الذي تتطلبه سياسات التغير المناخي يحتاج إلى زيادة كبيرة في إنتاج البتروكيماويات والبلاستيك ومواد أخرى. حتى إن انتشار السياسات الكهربائية يتطلب زيادة في إنتاج مواد من البتروكيماويات لتخفيف وزنها للتعويض عن ثقل البطاريات، كما أن الزيادة الكبيرة في إنتاج البتروكيماويات تتطلب كميات ضخمة من الغاز.

جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية وما نتج منها من تغيرات في أسواق الغاز لتظهر الدور الضخم للغاز في الاقتصاد العالمي، واقتصادات أوروبا تحديداً. وهنا لا بد من توضيح نقطتين مهمتين (الأولى) أن أوروبا ما زالت معتمدة على الغاز الروسي بـ16 في المئة حالياً وليس هناك أي بديل لهذه الكميات وعدم حصول كارثة في أوروبا في العامين الماضيين لا يعود إلى السياسات الأوروبية "الحكيمة"، ولكن لأن الأوروبيين كانوا محظوظين (شتاءين دافئين نسبياً مع خفض أنشطة الأعاصير على مدى عامين متتالين في خليج المكسيك، الذي يصدر منه الغاز المسال إلى القارة العجوز).

أما النقطة الثانية، فإنه مع الركود الاقتصادي في بعض الدول الأوروبية وخفض معدلات النمو الاقتصادي في دول أخرى، فإن نسبة استخدام الطاقة المتجددة تزداد على حساب الفحم والغاز، لأن سطوع الشمس وهبوب الرياح لا علاقة له بالوضع الاقتصادي، بينما يتحكم مديرو محطات الكهرباء في كميات الفحم والغاز المستخدمة، فيخفضون كمياتهما مع تراجع الطلب على الكهرباء.

قمة منتدى الدول المصدرة الغاز في الجزائر

في ضوء ما سبق، جاءت قمة منتدى الدول المصدرة للغاز في الجزائر، نهاية الأسبوع الماضي، بعنوان يؤكد فكرة هذا المقال "الغاز الطبيعي من أجل مستقبل طاقة آمن ومستدام"، إذ أكد قادة الدول المصدرة للغاز حقهم السيادي في استغلال موارد الغاز، وتمسكوا بدور التعاون بينهم من خلال المنتدى في تحقيق أمن وعدالة واستدامة الطاقة.

وجاء ما يسمى "إعلان الجزائر" ليؤكد أهمية التعاون والتنسيق بين دول المنتدى في مجالات بحوث وتقنية الغاز الطبيعي وبناء قدرات هذه الدول، ويشير أيضاً إلى أهمية الحوار بين المنتجين والمستهلكين بهدف تحقيق الاستقرار في السوق، بعيداً من التدخلات الحكومية والعوائق التجارية.

ولعل أهم ما أكد عليه القادة في اجتماع الجزائر هو دور الغاز الطبيعي في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وتلبية الحاجات المتزايدة لطاقة موثوقة ومستدامة وفي متناول الجميع، وكذلك دور الغاز الطبيعي في مواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ وأهميته في تحقيق الانتقال الطاقي بشكل عادل ومنصف ومستدام.

وأكد القادة نقطة تطالب بها الدول الأفريقية والهند سواء المنتجة منها أو المستهلكة للنفط والفحم والغاز، إضافة إلى دول "أوبك"، "يجب اعتبار الظروف والقدرات والأولويات الوطنية عند الحديث عن إنتاج الغاز واستهلاكه، ولا يمكن تحقيق أمن بيئي من دون نمو اقتصادي وتقدم اجتماعي". وهذه رسالة مهمة يجب أن يسمعها الأوروبيون دائماً.

خلاصة القول

المستقبل للغاز، من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم قرار الحكومة السعودية وقف التوسع في طاقة النفط الإنتاجية لـ"أرامكو" من 12 مليون برميل يومياً إلى 13 مليون برميل يومياً، والتركيز على الاستثمار في الغاز في حقل الجافورة الضخم، الذي سينتج كميات كبيرة من الغاز والسوائل الغازية.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • النفط بين بايدن وإيران!
  • إيران وأسواق النفط
  • زيادة واردات النفط في آسيا وأوروبا... هل ترفع أسعاره فوق 90 دولارا؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي