صواريخ الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية بعيدة المدى
2023-06-22
أمين الزاوي
أمين الزاوي

ما الدور الذي على الأنتلجنسيا الإبداعية والفكرية الشمال-أفريقية أن تلعبه وبمسؤولية تاريخية وفلسفية حيال سلسلة التوترات السياسية المزمنة التي تهز المجتمعات في بلدان هذه المنطقة الاستراتيجية؟ وما فاعلية الكلمة الرصينة المثقفة، العامرة بالتأمل الفلسفي وبالتنبؤات الإبداعية لمواجهة خطابات الحروب التي تلوح بها الأنظمة منذ الاستقلالات الوطنية ضد بعضها البعض؟

أمام ما يحدث، على الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية أن تعيد قراءة التاريخ والجغرافيا جيداً وبكثير من الهدوء وبعيداً من التأويلات السياسية والأيديولوجية الاختصارية لا من أجل إشعال حرائق أخرى، على جبهات مختلفة، لكن من أجل صناعة جزر اللقاءات الآمنة ومد جسور بين ما يظل قائماً من ثقافة مشتركة برموز عريقة متقاسمة، أملاً في صناعة مستقبل تتحقق فيه قابلية العيش المشترك والتنمية المشتركة والفوز العام والسعادة الجماعية.

هذا ليس بمستحيل، وليست الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية أقل تنويراً وذكاء من نظيرتها الأوروبية التي استطاعت أن تمحو حروباً دامت لقرون وترفع أنقاض حربين عالميتين كارثيتين.

لا أحد ينكر بأن تاريخ الصراعات بين الأنظمة زاخر وحافل بالتفتين وبالكراهيات القائمة على النوايا السيئة وعلى قراءات هذه النوايا بنوايا أخرى سيئة، لكن حين ندقق النظر في طبيعة ومحتوى تاريخ الضيافات والتقاربات والصداقات بين النخب بهذه المنطقة الكبيرة، وبين الشعوب أيضاً، سنجده غامراً بالحالات الإيجابية وبالطاقات الخلاقة المشتركة، وهو رأسمال مهم يمكن توظيفه في مواجهة حالات البؤس والعدوان القائمة والمكرسة من قبل الأنظمة السياسية الموسمية على اختلاف طبيعتها من اشتراكية أو ملكية أو ليبرالية أو قبلية أو عسكرية.

فبين المغرب والجزائر حربان وأكثر، وبينهما مصالحات كثيرة، وبين تونس وليبيا تاريخ من التوترات التي تشبه الحروب الصامتة، وبين المغرب وموريتانيا نزاعات لا تخمد نارها حتى تطلع من رمادها ثانية، وبين موريتانيا والجزائر رمل من توتر يهمد تارة ويصبح عاصفة رملية لا تبقي ولا تذر.

نصف قرن من الحروب التي تتحدث تارة بالمدافع ذات الذخيرة الحية وتارة أخرى بمدافع الدعاية والبروباغندا، الحروب الأولى تتولاها فيالق العسكر التي تخرجت وتكونت في الثكنات الوطنية أو الأكاديميات الأجنبية، وحروباً ثانية تقودها فيالق من الإعلاميين هم الآخرون تخرجوا من الجامعات والمدارس العليا الوطنية أو كبعثات للخارج في فرنسا وأميركا والاتحاد السوفياتي ومصر والشام.

علينا أن نفكر في الجزء الممتلئ من الكأس، فأمام نصف قرن أو يزيد قليلاً من تاريخ طبقات العداوات هناك تاريخ آخر مختلف ومخالف يمتد على مدى قرون من الزمن صنعه أبناء هذه المنطقة من الأمازيغ والعرب على حد سواء في مسيرة تشكل وتمأسس معقدة لكنها إيجابية، قبل تشكل الدولة الوطنية وقبلها بكثير، إنه تاريخ الضيافة الثقافية والإبداعية والأكاديمية بين بلدان شمال أفريقيا وبالأساس "الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا"، تاريخ كبير ومتنور يجب الحفر فيه بقوة وذكاء، وهذا ما هو مطلوب من الأنتلجنسيا في هذه البلدان، كي تؤسس لجبهة مناهضة للاستسلام ومقاومة لمرض الحروب.

 فمجلة "أنفاس" (1966-1972) التي صدرت في البداية بالفرنسية ثم بعد ذلك بالعربية أيضاً، والتي أسسها وأدراها الكاتب المناضل عبداللطيف اللعبي احتضنت كثيراً من الأقلام الجزائرية في رؤية شمال أفريقية عالية الضيافة من أمثال مصطفى الأشرف ومحمد إسماعيل عبدون ومالك علولة وغي تواتي وليلى صبار وعزوز بقاق والطاهر جاووت وعبدالحميد الأغواطي ويوسف سبتي وغيرهم، كما احتضنت أيضاً وبذات الضيافة الثقافية الأدبية النضالية كتاباً تونسيين من أمثال محمد عزيزة وغيره.

من جهتها، استقبلت الجامعة الجزائرية في مدرجاتها سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عشرات الأكاديميين والكتاب المتميزين من أمثال الفيلسوف والروائي محمد عزيز الحبابي واستقبل التعليم الثانوي الجزائري أسماء كتاب أصبحوا اليوم من أهم الأقلام المغربية كالروائي أحمد المديني وغيرهما.

الضيافة الثقافية والأدبية والمسرحية ظلت ورشة لأخلاق التعاون والحوار الجاد بين النخب الإبداعية في بلدان شمال أفريقيا في الوقت الذي كانت الحروب تكاد تكون قائمة أو نائمة بعيون مفتوحة بين الأنظمة.

اليوم، أمام وضع معطوب سياسياً، وضع ينتج كثيراً من الكراهيات وثقافة التوجس والتجسس بين الأنظمة القائمة تبدو مهمة الأنتلجنسيا التنويرية أكثر من ضرورية. فهل فعلاً سيتمكن المثقفون الإيجابيون لا المثقفون المقاولون من إخراج صواريخهم الفكرية بعيدة المدى بديلاً للصواريخ النارية للأنظمة السياسية الشمال أفريقية؟

كي تؤسس النخب الشمال أفريقية بالأساس "الجزائرية والمغربية والتونسية والموريتانية" لمشروع بديل ثقافي جريء وجاد وصريح عليها الذهاب بهدوء وتساؤل في اللحظات التاريخية التالية:

المحطة الأولى هي البحث عن كيفية استعادة ذكاء ومجد الذاكرة الشمال أفريقية في الثقافة المشتركة والسياسة والعمل النقابي وفلسفة حركة التحرر الاستقلالية وحركة الإبداع، وذلك من خلال قراءة استشرافية لتجربة حزب نجم شمال أفريقيا الذي تأسس عام 1926 بفرنسا في أوساط الطبقة العاملة الشمال أفريقية، وكان يطمح ليكون صوتها النقابي والسياسي، وقد ترأسه مصالي الحاج (1898-1974) وكان إلى جانبه عمار إيماش وصالح بوشافة وحاج علي عبدالقادر وبلقاسم رجاف وغيرهم.

كذلك للاستئناس بفكرة الشراكة والصداقة والثقة بعيداً من أمراض الشك وخبث النوايا على الأنتلجنسيا الشمال أفريقية أن تسترجع وتفكك واحدة من اللحظات التاريخية المميزة وهو مؤتمر طنجة الذي انعقد بتاريخ 30 أبريل (نيسان) 1958 وحرب التحرير الجزائرية على أشدها، وقد شاركت فيه شخصيات وازنة في السياسة والثقافة والفكر مثل فرحات عباس وعبدالحميد مهري وعلال الفاسي وباهي الأدغم وأحمد تليلي وغيرهم.

فالاستئناس والاستظلال بمثل هذه اللحظات التاريخية الإيجابية الماضية هي التي تجعل مشروع إقامة تاريخ مستقبلي شمال أفريقي مشترك وإيجابي قائمة وممكنة، وعلى النخب أن تحفر في مثل هذه المفاصل وتجعلها لغة الخطاب السياسي الراهن لإطفاء كل نار ورسم طريق جديد للتعاون والتقارب والعلاقات الصحية.

حين تملك الشعوب الشمال أفريقية كل هذا التاريخ العريق المتقاطع والمتكامل والممتد على قرون من الثقافات واللغات المشتركة المرسومة في الأدب الشعبي الشفوي والموسيقى واللغة الأمازيغية واللهجات العربية المحلية والعربية الفصحى والمذاهب الدينية والزوايا الطرقية التي لا تعرف الجغرافيا ولا الحدود الترابية، فإن الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية مطالبة اليوم أن ترفع من مثل هذا الرأسمال المشترك نحو أفق إيجابي.

كي تبني الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية مستقبلاً إيجابياً لشعوب هذه المنطقة، وأيضاً كي تكون بنكاً لأفكار يمكن الاستثمار فيها من قبل الأنظمة السياسية المختلفة، عليها أيضاً أن تقيم قراءة جديدة للاستعمار المشترك القديم وموقفه الراهن من قضية التنمية والعنصرية والاعتراف بجرائمه السابقة والاعتذار عنها خصوصاً ما لحق بالجزائريين منه من تدمير وتقتيل جماعي ممنهج ومرعب.

حين تتمكن الأنتلجنسيا الشمال أفريقية وبشجاعة من قراءة تاريخ الاستعمار والدفع به اليوم من خلال محاورة مثقفيه وفلاسفته ومبدعيه بصدق وقوة للاعتراف والاعتذار فإنها تقوم بذلك من باب استراتيجي لأنه لا يمكن التأسيس لبلدان شمال أفريقيا معافاة ومتكاملة في التنمية الثقافية والاقتصادية والسياسية من دون شراكة مع البلدان الأوروبية على حدودنا الشمالية كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال.

لا يمكن التأسيس لشمال أفريقيا قوي في غياب بلدان جنوب الاتحاد الأوروبي، فالجغرافيا مهمة في صناعة التاريخ والمستقبل والإنسان الجديد. 

ختاماً، على الأنتلجنسيا الإيجابية الشمال-أفريقية ألا تكون صوتاً سياسياً يسقط في شهوة نقد أنظمة بلدانها السياسية بشكل فج وغوغائي فتلك من مهام السياسيين الاحترافيين، فالأنتلجنسيا الأصيلة مهمتها النقد العميق لا التهريج السياسي الأيديولوجي الموسمي، كما عليها ألا تتحول إلى بوق لنقد نظام البلد الآخر بطريقة لا تنتج سوى مزيد من الكراهية وثقافة القطيعة المرضية.

إن ورشة الأنتلجنسيا هي تفكيك الظواهر الاجتماعية وتأمل مسار المجتمعات في تطورها وأحلامها وانتكاساتها وثقافاتها وحريتها، والعمل على احترام التجارب الخاصة بكل دولة في ما يخص اختياراتها التنموية التي ترى بأنها صالحة لمحاربة الفقر والبطالة والهشاشة الاجتماعية، من دون شك لا يستثني هذا التفكيك أعطاب الأنظمة السياسية أو الطبقة الحاكمة القائمة في هذا البلد أو ذاك، ولكن يتم كل ذلك عبر خطاب بنيوي شامل ومؤسس.

حين تكون صواريخ الأنتلجنسيا الاستراتيجية الشمال-أفريقية بعيدة المدى ذات مفعول حقيقي فإنها ستسكت من دون شك مدافع الحروب الصدئة، ولنا في نخب الاتحاد الأوروبي درس كبير.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • فضيحة حداثية: باريس 2023 تمنع كتابا أدبيا
  • النخب الجزائرية والكتب الملعونة
  • أن تكون كاتبا حرا في العالم العربي!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي