المثقف ما بين السلطة السياسية ومؤسسات الدولة
2022-06-26
أمين الزاوي
أمين الزاوي

هل يمكن للأدباء الذين حققوا رمزية عالمية أو جهوية أو وطنية معينة أن يقدموا إضافة نوعية في باب تحسين ورفع مستوى دبلوماسية بلدانهم؟ هل يمكنهم أن يواصلوا رحلة نصوصهم المدافعة عن فلسفة العيش المشترك والمرافعة عن القيم الإنسانية الكبرى وتعميرها وتثميرها من خلال حضورهم الشخصي المباشر في فضاءات الآخر الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية والثقافية، بالتالي التسويق لصورة بلدانهم بشكل موضوعي وإيجابي فاعل؟

يبدو لي أن واحدة من المهمات الأساسية، التي قد يحسن أداءها الأديب بعد تحقيق جمالية نصوصه، بطبيعة الحال، جمالية العلاقات الإنسانية، فكما أنه يصنع نصوصه بقلبه وعقله فهو أيضاً يصنع قراءه بذات التعب والحرص والاجتهاد، ويمكن اعتبار الدبلوماسية المعاصرة من الأعمال التي تلعب فيها العلاقات الإنسانية الدور الأساس، لذا من المرجح نجاح الأديب المبدع، وإن كان بدرجات معينة، في أداء دور سفير لبلاده لدى شعوب أخرى.

إن الأديب، الذي تسبقه كتبه، ترجمة وقراءة ودراسة وإعلاماً، في الوصول إلى الشعوب الأخرى، يمكن لحضوره الوجودي لاحقاً أن يحقق بعداً رمزياً مهماً، بالتالي يكون خطابه الدبلوماسي منسجماً ومتماهياً مع خطابه الإبداعي وتنويعاً عليه.

الأديب العالمي الذي له رأسمال رمزي، حين يتولى مهمة دبلوماسية ما، فإن البلد الذي يذهب إليه يستقبله فيه العامة والخاصة، الرسمية والشعبية، على حد سواء، يُستقبل كقيمة إنسانية متميزة قبل أن يُستقبل أو يُستمع إليه كقيمة إدارية لها مهمة تقليدية محددة.

الأدباء، من موقع الكتابة والإبداع، فقبل أن يكونوا سفراء بالمعنى الحرفي أو الرسمي للكلمة، فهم سفراء فوق العادة، هم سفراء على غير العادة. سفراء رغماً عنهم.

إن كثيراً من الدول المتخلفة التي تعاني اختلالات في علاقاتها مع العالم، كحالة سوء التفاهم مع محيطها الجهوي أو الدولي، هي مجبرة على تجديد خطابها الدبلوماسي وتحيين لغة خطابها في التواصل مع الآخر لتجاوز عقباتها، هذه الدول يمكنها أن تجد حلولاً لمعضلتها في الاتصال والحوار عن طريق الاستثمار في أدبائها.

ولأن الأدب، أعني الأدب الناجح، فضاء للحرية وخطاب مؤسس على الصدق والنقد والتفاؤل والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان، فإن الأنظمة السياسية التي تخشى الحرية تخاف من الاستثمار في الأدباء، لأن لسانهم صادق.

تخاف الأنظمة السياسية من الاستثمار في ثرواتها الكبرى من الأدباء على قاعدة كثيراً ما ترددها وهي: لسان الأديب سليط.

مرات أتساءل كم كانت الجزائر ستربح من الوقت ومن الجهد ومن الأمن ومن المحبة العالمية ومن المال لو أنها ضمت كتاباً ذوي قيمة رمزية كبيرة إلى أطقمها الدبلوماسية من أمثال: محمد ديب أو آسيا جبار أو كاتب ياسين أو مولود معمري أو جان عمروش أو مفدي زكريا أو جون سيناك أو الأخضر السائحي أو نور الدين عبة أو الطاهر جاووت أو رشيد ميموني أو الطاهر وطار أو محمد أركون أو علي مراد (من الذين رحلوا) أو محمد حربي أو رشيد بوجدرة أو بوعلام صنصال أو أحلام مستغانمي أو كمال داوود أو إبراهيم صديقي أو بشير مفتي أو سليمان جوادي أو حميدة العياشي أو سمير قسيمي أو سليمان بن عيسى أو... 

صحيح أن الكاتب الحر ذا الحس النقدي يفضل دائماً أن يحتفظ بمسافة بينه وبين النظام السياسي القائم، لكن صحيح أيضاً أن الكتاب جميعاً يريدون أن تكون بلدانهم في أحسن صورة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وصحيح أيضاً أن الكاتب يفرّق ما بين أداء دوره كمواطن يخدم الدولة ومؤسساتها وبين خدمة نظام سياسي عابر، وصحيح أن الأنظمة في البلدان غير الديمقراطية لا تفرق بين تقاليد مؤسسات الدولة والنظام السياسي الذي يحكم بلد هذه المؤسسات، فدور مؤسسات الدولة يختزل في الدعاية لهذا النظام أو ذاك.

وحين يختلط مفهوم النظام السياسي الموسمي بأجهزة الدولة ومؤسساتها الدائمة، فإنه يبدو من الصعوبة بمكان وجود صوت أديب حر ذي حضور رمزي عالمي داخل أجهزة الدولة، التي هي في عين هذا النظام أو ذاك ليست أكثر من وسيلة لحفظ بقائه وتزيين صورته.

إن مهمة الدبلوماسية الجديدة والمعاصرة في ظل أجيال التكنولوجيا المتوحشة ليست إعادة خطب الرئيس أو الوزير بطريقة ببغاوية أو ترديد شعارات البلد الدعائية في الصناعة والسياحة والأخلاق والدين والتعليم والصحة، فهذه الصورة المعطوبة موجودة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي القنوات الإعلامية الأخرى المسموعة والمرئية والمكتوبة. انطلاقاً من ذلك، فخطاب الأديب المبدع الذي يحافظ على المسافة ما بينه وبين خطاب السلطة، ويندمج بشكل حضاري في تقاليد مؤسسات الدولة ويدافع عنها، هذا الخطاب يزرع الطمأنينة، لأنه لا يعيد إنتاج الخطاب السياسي البارد والبراغماتي الزائف والمكشوف.

لذا فكثير من الدول التي تخشى الحرية والاجتهاد لا تزال تنظر إلى الدبلوماسية على طريقة تقاليد زمن "الرحالة" وزمن "الفرس" و"الفارس"، أو على الطريقة الإدارية البيروقراطية الباردة، بلدان لا تزال تعيش في علاقتها مع الآخر وكأنها تنتمي إلى القرن التاسع عشر وما قبله.

الأديب ليس مرشداً سياحياً ولا بوق دعاية، والدبلوماسية ليست وكالة سياحية، ولذا فدور الأديب في الدبلوماسية سيكون أعمق، لأنه سيخاطب العالم من وعن قلب بلده، عن الأبعاد الغامضة والعميقة التي يكتنزها تاريخ بلد هو صوته وقلبه وناقده.

أعتقد لو أن أي بلد انتبه إلى الثروة الإبداعية الكبرى التي يمتلكها ووظفها في باب نسج العلاقات المتينة والإنسانية مع الأمم الأخرى، ومن أجل الصالح العام المشترك، لكان البلد قد قفز على كثير مما يسمم علاقاته مع الآخر إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الاجتماعي.

أن يحيي دبلوماسي أمسية شعرية أو يقيم محاضرة عن أطروحة فكرية إنسانية كبيرة، أو يتحدث عن رواية مثيرة، أفضل بكثير من أن يقوم بخطبة أيديولوجية عصماء في التلفزيون أو الإذاعة كي ينفخ ريش ديك بلده!

إن خطاب الأديب بما يحمله من صدق وعفوية وحرية هو الذي يمكنه أن يخلق نوعاً من الارتياح والثقة المتبادلة، ليس في قيادة البلد الذي يكون فيه دبلوماسياً، ولكن في العامة من أبناء هذا البلد عن طريق العلاقات الثقافية والإبداعية التي من المفروض أن يضعها في مقدمة مهماته.

إن المصالح المشتركة بين الشعوب يمكن تحقيقها من خلال الاستثمار في الخطاب الإبداعي الإنساني الذي ينتجه الأديب من خلال خلق أساطير حول واقع بلده، الاستئناس بالأسطوري أكثر فاعلية من الاستئناس بالأيديولوجيا.

قوة الأديب في الإقناع والإمتاع قادمة من أنه يشتغل على بناء خطاب مؤسس على الأسطورة "الميثولوجيا" وليست الأيديولوجيا.   

الأدب طريق إلى الاستثمار الاقتصادي

كنت ضيفاً على معرض "لايبزيغ" للكتاب في ألمانيا، وهو واحد من أكبر المعارض الأوروبية الخاصة بالقراءة أساساً وبمستهلكي الكتاب، دُعيت إلى هذا المعرض لتقديم روايتي "غرفة العذراء المدنسة" " La chambre de la vierge impure " في ترجمتها الألمانية، وقد نظمت لي إدارة المعرض والناشر الألماني لقاءً أدبياً في مسرح المدينة، متبوعاً بحفل توقيع الرواية وحوار مفتوح مع المدعوين، وقد أثار انتباهي حضور مجموعة من رجال الأعمال الاقتصاديين الألمان هذا اللقاء، وبطبيعة الحال كان الحديث أدبياً، ليتفرع إلى مواضيع تشغل النص وتشغل الإنسان والبلد حول ظاهرة التطرف الديني، وواقع المرأة والمساواة والمدرسة وحرية الرأي والإعلام والسينما.

أذكر أن أحد المتدخلين تناول الكلمة وعرّف بنفسه على أنه من رجال المال والأعمال، قائلاً: "إننا نحن الألمان حين نريد الاستثمار في بلد ما، فأول ما نقوم به للحصول على صورة حقيقية عن بيئة الاستثمار الجديدة هو اللجوء إلى قراءة الأدب، وبالأساس الأدب الروائي، فالأدب هو ترمومتر الحال في هذا البلد أو ذاك، يعطينا صورة قريبة من الحقيقة، صورة موضوعية ولو كانت بحساسية ذاتية، عن العقلية التي سنتعامل معها وسنخاطر بوضع رأسمالنا فيها". 

أعتقد أن الدبلوماسية العربية والمغاربية ستظل منقوصة إذا لم تستثمر في إمكانات الأدباء والفنانين فيها، وهم كثر ومن عيار عالٍ، من الشعراء والروائيين ورجال المسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقيين.

لن يحرر الدبلوماسية العربية والمغاربية من خطاب البروباغندا السياسية الأيديولوجية والبطاقة السياحية البريدية إلا المبدعين الكبار الذين يدركون المسافة الكائنة ما بين النظام العابر ومؤسسات الدولة الثابتة.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – أندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • فضيحة حداثية: باريس 2023 تمنع كتابا أدبيا
  • صواريخ الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية بعيدة المدى
  • النخب الجزائرية والكتب الملعونة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي