احتراماً مني لعين القارئ!
2021-07-17
غادة السمان
غادة السمان

أديب أردني معروف له أسلوبه المميز، طلب مني مؤخراً الموافقة على كتابة “مقدمة” لكتابه الجديد.

واعتذرت عن ذلك حتى قبل أن أقرأ كتابه، لأنني أقف مبدئياً ضد كتابة “المقدمة” من أي كاتب كان، غير صاحب الكتاب. لماذا؟ لأنني أحب أن يطالع القارئ أي كتاب بعينه هو، لا بعين كاتب المقدمة!

وقلت للأديب الأردني المميز أن لا علاقة للأمر بإبداعه أو كتبه، بل هي قضية “مبدأ”، حتى أنني رفضت ذات يوم أن يكتب لي الشاعر نزار قباني مقدمة كتابي الأول “عيناك قدري”، وكان يظن أنه يقدم لي خدمة إعلامية وأدبية حين عرض عليّ ذلك، وهذا صحيح، لكنني كما قلت لنزار: أحب أن يطالعني كل قارئ بعينه هو لا بعين كاتب المقدمة أياً كان!! حتى ولو كان نزار قباني!

اللقاء الأول مع سهيل وعايدة إدريس..

حدث ذلك يوم جاء الأديب وصاحب “دار الآداب” اللبنانية مجلة “الآداب” الشهرية إلى دمشق سهيل إدريس وزوجته الأديبة عايدة مطرجي، واصطحبني نزار قباني إلى الفندق الذي نزلا فيه للتعارف، وحملت معي يومها مخطوط كتابي الأول “عيناك قدري” وأنا أحلم بموافقة على صدوره عن “دار الآداب”، وكان لقاء لن أنساه.

وكانا قد طالعا بعض القصص من مجموعتي الأولى في الصحف اللبنانية، ووافقا على نشر كتابي الأول، وكدت أطير فرحاً!! وحتى غادرناهما، قال لي نزار قباني: سأكتب لك مقدمة لكتابك الأول.

نزار وتقديمه لكتابي: لا!

وفوجئ نزار بجوابي إذ قلت له: لا أريد أن تكتب لي مقدمة. لا أريد أن يطالع القارئ كتابي بعينيك أنت. أريد أن يطالع كل قارئ كتابي بعينيه هو!!

أجل، فوجئ نزار بجوابي، وكان يعتقد أنه يسدي إليّ خدمة أدبية، بكتابة تقديم لكتابي الأول! وهي بحق خدمة إعلامية كبيرة من نزار الشهير، لكنني منذ بداياتي كنت كاتبة متمردة على أمور كثيرة، منها “مقدمة الكتاب”. وحين أشتري كتاباً أو يصلني كهدية، لا أطالع المقدمة إلا إذا كان كاتبها المؤلف نفسه، وأعتبرها من بعض الكتاب، تماماً كما لا يرضى الفنان الرسام بأن يضيف على لوحته أحد المبدعين بعض اللمسات، ولا بد من تقديم أي عمل أبداعي بريشة الرسام، وأي كتاب له بصوت كاتبه.

المقدمة.. ولكن لمؤلف الكتاب!

بالمقابل، أرحب بالمقدمة التي يكتبها مؤلف الكتاب لتوضيح بعض الأسباب الأدبية لإصدار كتابه وغير ذلك. فهو صاحب الكتاب، ولديه توضيح لوجهة نظره. وهو ما فعلته حين أصدرت سلسلة كتبي “الأعمال غير الكاملة” بدلاً من العبارة التقليدية “الأعمال الكاملة”.

وباختصار، في مقدمتي لسلسلة كتبي “الأعمال غير الكاملة”، شرحت للقارئ أولاً لماذا أدعوها “غير الكاملة” وكتبت في تقديم سميته “مصارحة” رفضي لتعبير “الأعمال الكاملة” لهذا أو ذاك، لأن الكتب حصيلة عمل بشري غير كامل مهما كان مبدعاً.. وأضفت: إن سلسلة الأعمال “الكاملة” التي أصدرها البعض تنطبق على الذين اكتملت حياتهم “الإبداعية بالموت”، وكتبت ذلك عام 1978 وما زلت أكتب!.. أي أن المقدمة مقبولة في نظري إذا كتبها المؤلف لتوضيح أمر ما حول الكتاب، وهو ما فعلته.

هل فعل ذلك عبد الحليم حافظ؟

ما كتبته عن الأديب الأردني المميز وكتابة المقدمة له ذكرني بصديقتين أردنيتين كنا معاً في القسم الداخلي للبنات في الجامعة الأمريكية (بستاني هول ـ جويت هول ـ ميوريكس هول) وربطتنا صداقة حميمة كالشقيقات، وهما لميس.ن، ومي.ن.

وعلى الرغم من استئذاني من لميس نشر اسمها كاملاً ووافقتْ، إلا أنني قررت بألا أفعل ذلك. وتذكرتها ومي.ن حين قرأت ما كتبه الناقد المصري ك. ر. عن أن “عبد الحليم حافظ” كان يمنح هداياه للصحافيين والنقاد كرشوة ليمدحوه”.

وهو ما أختلف معه، وأعتقد أن الصحافيين مدحوا عبد الحليم لجمال صوته وأدائه في زمن سيادة الفنان عبد الوهاب. ولكن عبد الحليم حافظ جاء وهو ينشد ألحان بليغ حمدي وسواه عصرياً (يومئذ) وأحبه الناس، وبالذات الجيل الجديد يومها، ناهيك على جمال صوته.

تعارفت عبد الحليم حافظ على يخت رجل الأعمال اللبناني جورج أبو عضل، صاحب مجلة “الأسبوع العربي” الشهيرة يومئذ، وكنت طالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكاتبة عمود في المجلة، ووجدته إنساناً دمثاً ومهذباً، وتصادقنا. وبعد زواجي، كان يتصل بنا من فندق الحمراء (في شارع الحمراء) قبل الحرب اللبنانية ويرافقني وزوجي إلى السينما والعشاء، وكان بمثابة أخ دمث.

ومرة كنت على موعد مع عبد الحليم (وكان يزور بيروت) والموعد في مقهى فندق الحمراء (لم يعد موجوداً) ولكنني اضطررت للإخلال بالموعد، فقد طلب مني أستاذي في الجامعة البروفيسور سويل يومنذ، إنجاز (ورقتي) عن مسرح اللامعقول (موضوع أطروحتي للماجستير) ومرت بغرفتي لميس ومي لأصطحبهما إلى جولة للتسوق في شارع الحمراء في بيروت، ورجوتهما المرور بمقهى شارع الحمراء والاعتذار من عبد الحليم حافظ، لأنني لن أستطيع الذهاب إلى موعدنا، وقد حاولت الاتصال به هاتفياً ورفض عامل المقهى مناداته للإجابة (كان ذلك قبل زمن الهاتف (الموبايل).

وذهبتا، ولميس تقول لي ساخرة: وملكة بريطانيا بانتظاري في المقهى! ولكنهما وجدتا الفنان عبد الحليم حافظ في المقهى بانتظاري!

السخاء العفوي لعبد الحليم بلا مقابل

وعرفتاه من صوره، وقالت له لميس.ن إنني أعتذر عن عدم الحضور، لأن عليّ إنجاز موضوع أطروحتي، ودعاهما إلى شرب القهوة، ثم اصطحبهما إلى الرصيف المقابل للفندق حيث بائع بعض الحلي الذهبية، واشترى لكل منهما حلية ذهبية رخيصة الثمن نسبياً ولكنها رمزية، تدل على كرمه العفوي في تلك الهدية الرمزية. وعادتا من نزهة شارع الحمراء سعيدتين بحسن استقباله.

ولذا، أشك في أن عبد الحليم حافظ كان يقوم برشوة أحد ليمدحه، فهو يستحق المديح، لجمال صوته وأدائه، ولأنه هز عرش المطرب الكبير عبد الوهاب وحل مكانه في قلوب عصرية كثيرة (يومئذ).

وهذه شهادة شعرت أن من واجبي الإدلاء بها: عبد الحليم لم يقم برشوة أحد!.

 

  • كاتبة وأديبة سورية

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي