أهداف شتى والنتيجة واحدة في ليبيا
2021-07-04
محمد أبو الفضل
محمد أبو الفضل

يبدو أن الغريب لن يتوقف عن الدوران في ليبيا، فبعد أن حققت البلاد خطوة نحو التسوية السياسية بتشكيل سلطة تنفيذية جديدة وتحديد موعد واضح لإجراء الانتخابات عادت الخلافات تتصاعد بصورة حادة، ما جعل بعثة الأمم المتحدة في ليبيا تعترف بلا مواربة بفشل ملتقى الحوار السياسي الذي عُقد في جنيف الأسبوع الماضي بسبب عدم التوافق حول قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات.

توقع الكثير من العارفين بما يجري في ليبيا التباعد بين أعضاء ملتقى الحوار، وإذا كانوا نجحوا في اختيار مجلس رئاسي وحكومة عنوانها الوحدة الوطنية فهذا لأن المجتمع الدولي كان يريد إنهاء فترة فايز السراج التي استنزفت أغراضها، ودفع في هذا الاتجاه بصرامة حتى جاءت النتيجة إلى حد كبير متسقة مع رغبة غالبية أعضاء الملتقى من أصحاب التوجهات الإسلامية والمصالح المرتبطة بها.

يتحمل عدد كبير من الأعضاء الحالة الغامضة بشأن الانتخابات، وهو ما يتّسق مع تحذيرات مبكرة جاءت من جهات عديدة رأت ميلا في الملتقى لصالح قوى أيديولوجية لا تريد أن تمضي ليبيا نحو تجاوز عقباتها إلا إذا واصلت ومن يقفون خلفها السيطرة على مفاصل القرار، والذي يراد له أن يتمركز في طرابلس فقط.

كان التباين حول القاعدة الدستورية التفسير الظاهر لما يمكن وصفه بالانتكاسة السياسية، بينما الخلاف موجود ومتجذر منذ فترة طويلة، فكل طرف يريد تفصيل أطر العملية الانتخابية على المقاس الذي يريده ويحقق أهدافه ويحمي مصالحه، فمن يدورون في فلك التيار الإسلامي وضعوا عراقيل تحول دون ترشح المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي ورهن الانتخابات بالاستفتاء على الدستور.

وعملوا على  خلق مساحة كبيرة من التجاذبات تمنع فكرة التوافق، فرفض حفتر كان يمكن أن يأتي من خلال صناديق الاقتراع طالما أن لهم جمهورا عريضا يلفظه ويحمّله جانبا كبيرا من روافد الأزمة، أما المصادرة المسبقة فهي تعكس شوفينية يسعى الليبيون للتخلص منها، لأنهم لن يستبدلوا جنرالا بمدني يخدم أغراض شريحة معينة.

كما أن التمسك بمسألة الاستفتاء يعني تجاوز الموعد المحدد للانتخابات، فالتوافق والاستفتاء يحتاجان إلى فترة زمنية سوف تتجاوز موعد الـ24 من ديسمبر المقبل، وهو التاريخ الذي حددته خارطة طريق الأمم المتحدة لإجراء الانتخابات وإنهاء دور الحكومة الانتقالية التي يقودها عبدالحميد الدبيبة حاليا.

أدى الدخول في تفاصيل أخرى مثل طريقة اختيار رئيس الجمهورية والقائمة الانتخابية والموقف من حملة الجنسية المزدوجة والعسكريين إلى تراشق بين أصحاب الأجندات المتعارضة، وعلى الرغم من اختلاف الأهداف، إلا أن كل الفرقاء اجتمعوا على هدف واحد، وهو ترحيل الانتخابات طالما أنها لا تتناسب مع مصالحهم.

يتحمل جزء كبير من اللغط بعثة الأمم المتحدة في عهد السفيرة ستيفاني وليامز التي وثقت في أعضاء الملتقى الذين اختارتهم بعناية ومنحتهم صلاحيات كبيرة، وجعلت سلطتهم فوق مجلس النواب الليبي مع أنه الجسم الوحيد المنتخب، وكان من الطبيعي أن تكون النتيجة قاتمة، فبعد انتهاء اجتماعات جنيف لا أحد يعلم كيف تسير الأمور، فالألغام التي نثرتها ستيفاني ورفاقها بدأت تتفجر في وجوه من وثقوا في خطتها.

انتهز الدبيبة فرصة إخفاق من اجتمعوا في جنيف وحاول وضع الكرة في ملعب آخرين، فألمح في تصريحات له مساء السبت إلى أن المشير خليفة حفتر يريد تخريب العملية السياسية، وكأنها تمضي في طريقها الصحيح، ونكأ من جديد ملف تلقي حفتر دعما من قوى خارجية، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى تزايد التدخلات التركية في ليبيا، وتجاهل الدور القاتم الذي تلعبه قوات المرتزقة التابعة لأنقرة والميليشيات، ونسي أنه من المتهمين بـ”التواطؤ” مع النظام التركي وجاء على أسنّة رماحه.

زاد رئيس الحكومة من اللغط وتعمّد صبّ المزيد من الزيت على النار المشتعلة كي يخلي مسؤوليته عن استمرار الأزمات وعدم قدرته على حل مشكلة واحدة سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وحاول إيجاد مساحة أكبر من التشويش على الأوضاع الراهنة وقذف بكرة أخرى في ملعب أحد خصومه المحتملين.

تحدث في إشارة ضمنية لكنها لافتة عن وزير الداخلية السابق في عهد حكومة السراج، فتحي باشاغا الذي خرج عقب فشل ملتقى الحوار في جنيف عبر فيديو بثه على منصات التواصل الاجتماعي ووجه فيه انتقادات حادة للدبيبة، وهو ما جعل الأخير يتهمه بالفشل على مدار ثماني سنوات كان فيها جزءا من السلطة في طرابلس أو قريبا منها، فكيف يحاسب حكومة لم يمض على تشكيلها سوى ثلاثة أشهر.

تشير هذه التطورات إلى أن العملية السياسية يمكن أن تفلت من عقالها وتتوالى التجاذبات بين القوى المتصارعة، بما يمنح فرصة للعصابات المسلّحة الكامنة لتستعيد بريقها، حيث يتزايد دورها مع احتدام النزاعات والتوترات، ما يؤكد في النهاية أن عملية التوصل إلى تسوية بعيدة عن ليبيا، لأن القوى الفاعلة في الداخل والخارج لم تقتنع بأنها سوف تحقق أهدافها كاملة حتى الآن.

لا يختلف حال القوى الدولية عن المحلية، فالتناقضات تهيمن على الأولى كما الثانية، وعندما عقد مؤتمر برلين الثاني مؤخرا وحمل بيانه الختامي مجموعة من البنود لم يحدد آليات معينة لتنفيذها، واكتفى بشعارات جذابة تدغدغ مشاعر الباحثين عن الأمن والاستقرار دون وسائل عملية تؤدي إلى الحصول على نتيجة تنهي الأزمة الليبية.

أراد من انشغلوا بإشكاليات الانتخابات المتشابكة ودروبها القانونية من قوى خارجية وداخلية صرف الأنظار بعيدا عن بعض الأزمات الحقيقية التي تمثل جوهر استعادة عافية الدولة الأمنية ورونقها السياسي، وأبرزها عدم التطرق بجدية إلى ملف العصابات المسلحة التي تضخّمت بشكل مخيف قد يردع الكثير من الجهات الوطنية التي تفكر في الاقتراب منها أو حتى الحديث عن التخلص منها.

تجاهل هؤلاء أيضا العودة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوحيد المؤسسة العسكرية واستغرقوا وقتا طويلا في إعادة إنتاج مخاوف سابقة تعيد الفجوة بين الشرق والغرب، فهم يعلمون أن وجود مؤسسة أمنية منضبطة ونظامية وقوية وقادرة على تأمين الانتخابات سوف يمنع تزويرها ويضمن تنفيذ نتائجها، فلا معنى لعملية سياسية تحوي مخرجات يصعب تطبيقها على الأرض.

تفسر هذه الأجواء القاتمة أحد أسرار عودة تركيا للحديث مباشرة عن عدم خروجها من ليبيا، فقد قرأت المشهد بعناية ووجدت أن الصراع مستمر لأجل غير مسمى، فلماذا تضحي بما حققته من مكاسب متعددة، ما يقود للعودة إلى مربع ما قبل تشكيل السلطة التنفيذية، وعلى المجتمع الدولي تحمل مسؤوليته بعد أن عادت الأزمة إلى الخلف.

 

  • كاتب مصري

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • المؤامرة على مصر مرة أخرى
  • التنمية قبل السياسة في مصر
  • إخفاقات تقاسم السلطة العربية.. عرض مستمر





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي