كيف يربط التكافل ما قطعته الحرب؟
2019-12-21
فاطمة خليفة
فاطمة خليفة

المسرحي الألماني برتولت بريشت كتب عام 1926 مسرحية كوميدية بعنوان "رجل برجل"، تتحدث عن رجل يُدعى "كالي كاي"، يخرج في أحد الأيام من بيته لكي يشتري سمكاً، فتلتقيه دورية عسكرية، فقدت أحد أفرادها الأربعة، ويجب عليها أن تعثر على شخص آخر يحلّ مكانه، لتتجنب ثورة وغضب الرقيب الذي كان فظاً. كالي كاي، بطل المسرحية، يتبع الجنود الثلاثة، وشيئاً فشيئاً، يتكيف مع الجنود، ومع ملابسهم وأشكالهم، ويتبنى مواقفهم، تلك التي يجب أن يمتلكها المحارب في حالة الحرب. وهكذا يتم تفكيكه في المسرحية، وتجميعه وتركيبه، لكي يتأقلم مع مجريات الأمور في العالم، وليصبح، في النهاية محارباً قوياً يبعث على الخوف.

كُتب كثيراً عن مجتمع ما بعد الحرب، ومجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى تحديداً، المجتمع الذي يُراد أن يكون الفرد فيه مجرّداً من أيّ شيء، وكل شيء، تكاثرٌ للكائنات لا للجوهر، كائنات هجينة، قابلة للتغير والتبدّل والتكيّف مع الآلات العظيمة، كـ "كالي كاي" تماماً.


هذا المفهوم الحقيقي الكبير، يحوّلنا إلى ما يراد لنا أن نكون عليه؛ نلبس الملابس التي تواكب "الموضة" التي صُمّمت لنا، ونشتري الهواتف التي لا بدّ أن نقبل بجميع شروطها وإلا فلن ترحّب بنا، حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، لا نستطيع أن نكتب ما يُغضبهم، هم، صانعُو الأشياء، والشركات، والخطوات، مهندسو الأحلام والشخصيات، والقرارات، لا نستطيع أن نتحرك خارج حدود إرادتهم، وشيئاً فشيئاً، لن يكون لنا القرار حين نريد أن نبقى كما نحن، لن يُرحَّب بنا ببساطة في هذا العالم.

يتحكم هذا الفلك بنا، وبإرادتنا، وباقتصادنا، وبعملتنا، ولقمة عيشنا، لكن يبقى في الإنسانية شيء حقيقي، لن تستطيع الآلة تغييره، أو أنها لم تستطع حتى الآن، إنه التعاطف مع الآخر، الآخر الإنسان، والآخر المختلف، أيّاً يكن.

في لبنان، بلد الأرز والتاريخ والحضارة، المكان الذي يشدّ السياح دائماً لما فيه من نسيج مثقف وغني مختلف، اشتعلت فيه مؤخراً احتجاجات مطلبية، احتجاجاتٌ نددت بالفساد الذي نخر عظام السلطة، ولم يُبق للشعب ما يخسره. سُرقت الطرقات الآمنة، والمستشفيات، سُرق الدواء، ومقاعد الدراسة، ولقمة العيش.

كان صوت الشعب عالياً بقدر ما كانت معاناته عميقة وملتهبة، لم يسرقْ سياسيّوه بمنطق، سرقوا بنهم، بجشع.

الكاتب اللبناني محمّد نزال وصف سياسيّي لبنان بـ "الجراثيم الغبية"، قال "لو سرقوا أقل لكان الوضع اختلف. لقد سرقوا بجنون. كانوا مثل "البكتيريا الغبيّة"، يُقال إن "البكتيريا الذكيّة" تأكل مِن الجسد، تأخذ حاجتها، ولكنّها لا تفني الجسد تماماً، لا تقتله، تعرف بطريقة ما أنّ نهايته هي نهايتها. سياسيو لبنان كانوا "جراثيم غبيّة".

وقع لبنان اليوم تحت العجز، وكالة "فيتش" خفّضت تصنيفه من درجة CCC الى CC، وهذا يعني أن على الدولة أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي لتأخذ قروضاً وتستورد حاجاتها، أو أن تبادر سريعاً إلى اتخاذ إجراءات النهوض من الإفلاس.

اقتصاد لبنان يتحول إلى مصدر تهويل على الناس، قد يصبح العيش في لبنان ملغوماً، محفوفاً بالمخاطر، إذا ما بقي الوضع كما هو عليه، لكنّ بعض الناس جاعت فعلاً، خصوصاً أولئك الذين كانوا على حافة الانهيار، لكنهم لم يقعوا، وعلى الرغم من كلّ ذلك السواد الكامن تحت أعين اللبنانيين، لما يعانونه من قلق، لأن الخيارات ضيقة، أبصرت مبادرات إنسانية النور، ووُلدت من رحم المعاناة، مبادراتٌ تستحق أن نتوقف عندها ونقول إننا ما زلنا كائناتٍ غير مجردة من كل شيء، جوهرنا ما زال فينا، لم نُؤطّر بعد!

مبادرات اللبنانيين كانت إنسانية عفوية، وطيبة، وراقية، محالٌ تجارية فتحت أبوابها للفقراء، في أحد محالّ بيع المواد الغذائية علّق أحدهم لافتة كُتب عليها: "أنا خيّك بالإنسانية، إذا ما معك تدفع، حمّل وامشِ".

أحد الأفران أيضاً وضع خبزاً خارج محله ولافتة كُتب عليها "ببلاش إذا ما معك، ريتو صحة وهنا".

جمعيات وزّعت ثياباً على الفقراء، خصوصاً أننا في فصل الشتاء، تكافل الناس وتكاتفهم، أعطى صورة جديدة عن الإنسان اللبناني الحديث، الذي لم تستطع كلّ منظومات التطوير والتهجين أن تغيّره.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


*صحافية وكاتبة لبنانية.
عن الميادين



مقالات أخرى للكاتب

  • لماذا يعتبرُ اللبنانيون فيلتمان "سفير الفتنة في لبنان"؟






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي