جنون اللغة: "في الوقت المناسب والمكان المناسب"
2021-03-04
أمين الزاوي
أمين الزاوي

حين أسمع عبارة "في الوقت المناسب والمكان المناسب" على قناة إذاعية أو تلفزيونية، أو أسمعها من فم مسؤول سياسي عربي أو مغاربي، أو أقرأها في صحيفة من الصحف، سواء كانت من اليسار أم اليمين أم الإسلامي، أشعر بأنني لا أعرف هذه "العربية" التي بها وفيها قرأت القرآن الكريم، وابن جني، وابن فارس، وحفظت كثيراً من الشعر قديمه وحديثه، موزونه ومنثوره من امرؤ القيس إلى أدونيس، مروراً بالأخطل، والفرزدق، وجرير، والمتنبي، وابن زيدون، والشريف الرضي، والأخطل الصغير، وعمر أبو ريشة، ومحمود درويش، وغيرهم، وقرأت من عيون النثر الكثير من نثر المعري في رسالة الغفران، وبخلاء الجاحظ، وطوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، ومقدمة ابن خلدون، والروض العاطر في نزهة الخاطر للنفزاوي، وميرامار لنجيب محفوظ، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، واللاز للطاهر وطار، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، والثلج يأتي من النافذة لحنا مينة، وغيرهم...

إلا أنني، صدقاً، كلما وقعت عيني على عبارة "في الوقت المناسب والمكان المناسب" لا أفهم معناها نهائياً، إذ تبدو لي وكأنها قادمة من اللغة السنسكريتية أو الماندارين الصينية التي لا أفهم منهما شيئاً، وبالفعل حتى الآن لا أعرف "معنى" لهذه العبارة الأكثر تكراراً عند العرب، في وقت يحدث هذا منذ خمسينات القرن الماضي والألسنة لا تتوقف عن لوكها.

في كل الإذاعات العربية والمغاربية وقنواتها التلفزيونية، وخطب سادتها وقادتها وعسكرها وسياسييها وفقهاء البلاط وغير البلاط فيها، تسمع هذه العبارة للرد على العدو الغاشم، "في الوقت المناسب والمكان المناسب".

"في الوقت المناسب والمكان المناسب"، هي العبارة الأكثر ترجمة في اللغة التركية والفارسية، هناك العبارة هي "ساندروم" مرض سياسي مشترك بين العرب والترك والفرس.

كم سمعت إسرائيل من العرب والترك والفرس جميعاً هذه العبارة منذ 70 سنة وأكثر، سمعتها صباحاً ومساء، في زمن الحرب، وفي السلم الذي لا هو حرب ولا هو سلم ولا هو ما بينهما.

وتأسست إسرائيل وتمأسست وشكّلت زمانها ومكانها، مدنها وقراها وسماءها وبحرها ولغتها وعلومها وفنونها، ولم نفهم نحن بعد "في الوقت المناسب والمكان المناسب"، وهي الوحيدة التي فهمت ما معنى "في الوقت المناسب والمكان المناسب" مع أنها ليست مكتوبة بالعبرية كما يبدو لي.

في سن المراهقة، كنت أسمع إذاعة الثورة الفلسطينية على القناة الجزائرية، كان صوت المذيع يخرج "مجلجلاً"، والكلمات في فمه أتصورها مثل الصواريخ والمدافع والطائرات الحربية، مثلي كان أبي هو الآخر يسمع بكثير من الحماسة والإعجاب عبارة "في الوقت المناسب والمكان المناسب"، مثله أنتظر "الوقت المناسب والمكان المناسب"؟  كنت معجباً بهذا الموعد الإذاعي الثوري، أسمعه يومياً من الساعة الخامسة إلى السادسة مساء، وفي كل مرة كان المذيع الذي يدهشني بصوته لا يتوقف عن تكرار عبارة "في الوقت المناسب والمكان المناسب"، وكنت، وبشكل عفوي، أكررها معه بل أعرف متى يقولها، ومضت سنوات على البرنامج، وكبرتُ ودخلت الجامعة وتخرجت وأصبحت أستاذاً جامعياً، ومثلكم، ما زلت أسمع عبارة "في الوقت المناسب والمكان المناسب"، لكن لم يحن "الوقت المناسب" للوقت المناسب، ولم يعرف المكان المناسب بعد من المكان غير المناسب؟ فما هذه اللغة وما هذا اللغو ومن هو هذا اللاغي.

"ففي الوقت المناسب والمكان المناسب"، منذ نصف قرن وأكثر، والعرب ينتظرون معنى واقعياً ملموساً لـ "في الوقت المناسب والمكان المناسب"، لا مكان للمكان على الرغم من أن الجغرافيا واسعة، جغرافية العدو تكبر شبراً فشبراً، وجغرافيتنا كصبرنا تنقص شبراً فشبراً، ولا وقت مناسباً لـ "الوقت المناسب"، على الرغم من أن أجيالاً رحلت وأجيالاً جاءت وأخرى مهددة بالزوال انتحاراً أو قنوطاً أو بالحروب الداخلية.

لكن، يبدو في هذه السنوات الأخيرة، وكأن عبارة "في الوقت المناسب والمكان المناسب "قد وقعت على "معناها"، ولكنه معنى آخر، لم يكن ليسقط ببالنا أبداً، لقد تغير التأويل وعمل "انحياز" المعنى، كما يسميه "السيمائيون"، عمله فينا، وفي التاريخ وفي الجغرافيا، فبعد أن كان المقصود منها العدو الكلاسيكي "الغاشم"، تحول المعنى وانحاز إلى عدو آخر، إنها "شعوب هذه الأنظمة".

هكذا ظهرت الفصاحة بكل فنونها، وللمرة الأولى أفهم جيداً، معنى "في الوقت المناسب والمكان المناسب"، وأصبحت هذه الأنظمة العربية والفارسية والتركية فعلاً تضرب الهدف المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب، والهدف المناسب هو المواطن الذي يطلب الحرية والخبز والعدل والكرامة، لذا أصبحت عبارة "في الوقت المناسب والمكان المناسب" لها معنى آخر، وأصبحت عربية قحة وفارسية فصيحة وتركية إسلامية صحيحة.

 

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • فضيحة حداثية: باريس 2023 تمنع كتابا أدبيا
  • صواريخ الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية بعيدة المدى
  • النخب الجزائرية والكتب الملعونة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي