فيروز رمز منقذ ولكن
2020-09-03
هيثم الزبيدي
هيثم الزبيدي

زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأيقونة الغناء العربي فيروز ولقاؤه بها لفتة مهمة. لم تبق في لبنان أية رموز يعتدّ بها، واستهلك السياسيون كل رصيدهم، بل وأنفقوا من أيّ رصيد مستقبلي لديهم مقدّما بما مارسوه من انعدام المسؤولية بحق بلدهم، بل وقلة الحياء عند البعض.

لا أعتقد أن ماكرون من مستمعي فيروز. وربما لم يسمع عنها إلا مؤخرا من فريقه السياسي البحثي الذكي. لكن رئيسا لبلد يفهم الرمزيات الشخصية وتأثيرها في الشعوب، لا يحتاج إلى الكثير من التفكير ليوجه رسالة إلى الطبقة السياسية في لبنان وإلى اللبنانيين: أنتم الزبد الذي يذهب جفاء؛ منتفعون وانتهازيون في أحسن الأحوال، وقتلة في الكثير منها. قتلة حقيقيون وضمنيون.

لا شك أنه ليس ثمة الكثير مما يمكن أن تقدّمه فيروز الآن للبنان. أزمة لبنان تتجسد في أن يلجأ الناس إلى رمزيات مستعادة من الستينات والسبعينات من القرن الماضي حين كان لبنان في أوج زهوه. أطال الله عمر فيروز، ففيها وجدنا شيئا يمكن الاتكاء عليه في هذا المشهد الحزين. ولكن مثلها مثل إيفون سرسق التي قضت في انفجار لبنان وهي السيدة التي عاشت حياتها في محاولة استعادة بيروت الجميلة، يبقون أفرادا يشهدون انهيار عالمهم مرات ومرات. كل هذا ثقيل على أيّ قلب. كم مرة تستطيع فيروز أن ترى بيروت تتهدّم؟ وكم مرة تجد لديها ما يكفي من الأمل تبثه فيمن حولها؟ وكم صباحا يأتينا صوتها فيشحننا بطاقة؟ وكم جيلا تستطيع أن تلهم؟ الأجيال الجديدة إما في استغراب ومسعى للرحيل، وإما لا مبالية وتتساوى عندها فيروز ومطربة عادية، وإما جيل يلطم ويضرب نفسه بالسلاسل ويقطع جبهته بالسيف ألما تاريخيا، ولا يستطيع أن يتحسس ألم مدينته على بعد خطوات من موقع مسيرة الاحتفال الديني.

الأيقونات الثقافية رموز منقذة، ولكن للشعوب الحية. جمهورية تشيكوسلوفاكيا كانت قد وصلت إلى مخاض التغيير عام 1989 وثورتها المخملية، عندما استدعت المثقف ليكون قائدا للمسيرة. يوم صار الكاتب المسرحي فاكلاف هافل رئيسا، كان روح التغيير وربانا أمينا لمرحلة الانتقال من الشيوعية أولا، ثم موجه الانفصال السلمي والهادئ للدولة بين جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا. هنا تصبح أهمية المثقف/ الفنان/ المفكر مضاعفة لأن رمزيته ليست ورقة مجانية تلقى لعل وعسى تكون مجدية.

اللبنانيون استبقوا الانفجار وأعلنوا تمرّدهم على واقعهم الأليم. ولكن الطبقة السياسية مراوغة وتعرف كيف تناور أو تستخدم الترويع والتخويف، بل والقتل. ثعالب الطائفية السياسية في لبنان لا يتردّدون في انتقاد المنظومة الطائفية التي أجلستهم في مقدّمة المشهد لعقود. التغيير، كما صار واضحا، هو فوق قدرة أيّ سياسي في البلد، ولا نعرف كم فاكلاف هافل بقي في لبنان. حتى نجد واحدا، نشغل الراديو صباحا ونستمع إلى دندنات فيروز الستينات.


*كاتب‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬مقيم‭ ‬في‭ ‬لندن



مقالات أخرى للكاتب

  • لا أعداؤها يخشونها ولا حلفاؤها يثقون بها.. ولكن
  • اللقاح ليس سلعة
  • إعلامي لا يصنع محتوى






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي