مدينة المساجد المنسيَّة.. كيف تروي سوجو قصة الماضي الإسلامي في الصين؟

City of lost mosques: how Suzhou tells the story of China’s Islamic past
2021-03-21

عفاف محمد

تتجول الباحثة والمختصة بالعلوم السياسية والاجتماع، أليساندرا كابيليتي، في المجتمعات الإسلامية لمدينة سوجو الصينية، وتلقي في تقريرها المنشور في موقع «ذا كونفرزيشن» الضوء على آثار المساجد الإسلامية التي تعود بتاريخها إلى القرن الثالث عشر.

متاهة التاريخ

تخفي متاهة الأزقة والممرات في مدينة سوجو القديمة سرًّا في داخلها، يتمثل بالشظايا التاريخية التي تعود لتاريخ الإسلام الطويل في الصين. عادةً ما تسلط القصص الرائجة في الصحافة الدولية الضوء على معاملة المسلمين في منطقة شينجيانج إيغور المتمتعة بالحكم الذاتي، حاجبةً حقيقة التقدير الكبير الذي كان يحظى به الإسلام من قبل الأباطرة الصينيين عبر التاريخ.

يتضح من السجلات المكتوبة والمراسيم الإمبراطورية المنقوشة على اللوحات الحجرية أن هذه المجتمعات الإسلامية حظيت بتفضيل الأباطرة، وتخصص الكاتبة بالذكر فترات سلالات تانج (618- 907م)، ويوان (1271- 1368)، وتشينج (1644- 1912). تؤكد الكاتبة أن البلاط الإمبراطوري كان ينظر إلى الإسلام باستحسان للأخلاقيات التي تميزه، والتي عززت العلاقات المتناغمة والسلمية بين الشعوب المتنوعة في أراضي الإمبراطورية وفقًا لمنظور الأباطرة.

بعد تمرد بانثاي وتونجان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في غرب الصين، عندما قُتل ملايين المسلمين أو أعيد توطينهم، بدأ المبشرون المسيحيون في البلاد –وخاصة الدارسين الروس – باعتبار أن الإسلام يمثل تهديدًا متزايدًا. بالمقابل، اعتبر الكثيرون في الغرب أن الإسلام لديه القدرة على أن يصبح دين الصين الوطني، وهو ما كان سيحوِّل الصين لأكبر دولة إسلامية في العالم.

الإسلام والصين: علاقة خاصة

تنتقل الكاتبة إلى وضع سوجو اليوم، فهي الآن مدينة غنية ونابضة بالحياة يبلغ عدد سكانها 12 مليون شخص وتبعد 20 دقيقة فقط بالقطار السريع من شنجهاي. يقع ما تبقى من «سوجو الإسلامية» خارج سور المدينة إلى الشمال الغربي، ولا يوجد سوى مسجد نشط واحد (ويُسمى: مسجد تايبينفانج) في منطقة شيلو التجارية والترفيهية الواقعة جهة الشمال.

رُمم تايبينفانج (Taipingfang) عام 2018، ويعد الوجهة الرئيسية للمسلمين المحليين والزائرين ممن يريدون إقامة الصلاة والشعائر. يقع المسجد في زقاق صغير من جزء مزدحم من الحي، وتحيط به المطاعم والفنادق والمقاصف وأكشاك الطعام والجزارين الذين يقدمون الطعام لمسلمي الإيغور وخوي. وتوضح الكاتبة أن الاعتقاد يسود بأن أفضل اللحوم تُوجد لدى جزاري تايبينفانج، مثل أولئك الموجودين في منطقة نيوجي التابعة لبكين، حيث تعيش غالبية أقلية المدينة المسلمة.

قبل عام 1949، كان في سوجو ما لا يقل عن 10 مساجد من مختلف الأحجام والقيمة الاجتماعية المرتبطة بها. توضح الكاتبة اختلاف هذه المساجد ببنيتها ومحتواها، فبعضها اشتمل على الأثاث الثمين والديكورات المتطورة، فيما كان البعض الآخر عبارة عن غرف صلاة صغيرة لا أكثر. وتنوِّه الكاتبة إلى أن أحد المساجد خُصص للنساء وتترأسه أو تديره إمامة.

يُعدُّ مسجد النساء واحدًا من مجموعة من أربعة مساجد بُنيت خلال عهد أسرة تشينج، والتي ترتبط جميعها بعائلة يانج الثرية داخل أسوار المدينة في الجزء الشمالي الغربي من المدينة. شُيِّد مسجد النساء في عام 1932، وأٌنشئ بمبادرة من ثلاث نساء متزوجات من عائلة يانج الذين تبرعوا بالمبنى وجمعوا التمويل المتبقي من عائلات مسلمة أخرى؛ بهدف تحويله إلى مسجد للنساء. تضررت مكتبة المسجد بكتبها المقدسة خلال الثورة الثقافية  (1966- 1976)، وتحول المبنى إلى منازل خاصة، ولم يبق شيء اليوم لإثبات أنه كان مسجدًا في الماضي.

من ضمن المساجد الأخرى التي بنتها عائلة يانج مسجد «Tiejunong»، استغرق بناؤه ثلاث سنوات في عهد إمبراطور تشينغ كواجتشو (من 1879 إلى 1881)، وكان أكبر مسجد في سوجو بمساحة تزيد على 3 آلاف متر مربع شاملًا سبع باحات. حوت القاعة الرئيسية لصلاة الجمعة 10 غرف، وكانت تتسع لأكثر من 300 شخص، واحتوت الباحة على مئذنة وشاهدة إمبراطورية.  أصبح هذا المسجد مدرسة متوسطة الآن، لكن يمكن تمييزه من العمارة الخارجية والباب الجانبي الخشبي القديم بنقوشه. ما وراء المدخل المميز، ما تزال فكرة الفناء الرئيسي المحاط بالأشجار قائمة، وإن يشغلها الآن ملعب كرة قدم ضخم، وما تزال الأشجار الموجودة على جوانب الممشى تبدو أمكنتها من جذوعها المقطوعة. أكثر ما بقي من العلامات على ماضي المبنى هو منطقة الوضوء الإسلامية المغطاة بالبلاط الأزرق.

تنتقل الكاتبة بعدها إلى مسجد «Tiankuqian» الذي بُني عام 1906 ويسكنه الآن الفقراء من سكان المدينة، وهو ما ترجح الكاتبة أنه يعود للممارسات التي سادت خلال الثورة الثقافية المرتكزة على إعادة تخصيص المباني الكبيرة أو الأرستقراطية أو الدينية لمساكن العائلات المعوزة. كان المسجد يمتد على مساحة تقارب ألفي متر مربع، وبه صالة رئيسية، وقاعة للضيوف، وغرفة للوضوء. كان هيكل القاعة الرئيسية يبدو وكأنه مكان كبير لإلقاء المحاضرات، ويبين تقرير السجلات التاريخية المحلية احتواءه على لوحة من خشب الجنكو بها كتابات بالخط العربي للمعلِّم يو يو (Yu Yue). كان للكثير من عمَّال حجر اليشب الكريم أعمال في تلك المنطقة، ولذلك تدفقت التبرعات والعناية حتى أصبح هذا المسجد الأكثر ازدهارًا وعمارًا في الصين بأكملها. في عشرينيات القرن الماضي، افتُتحت مدرسة لتعليم النصوص الإسلامية والكونفوشيوسية هناك.

كان للعديد من المساجد مدارس تابعة تعلِّم اللغة العربية والكتابات الإسلامية لأبناء الجاليات المسلمة، وتعد سوجو من أوائل المراكز الثقافية التي نُشرت بها الكتب الإسلامية المقدسة باللغة الصينية. أقبل علماء سوجو (تشانج شونج وتشو شيكي) على ترجمة الكتب والنصوص من الفارسية إلى الصينية خلال القرن السادس عشر، ما بوَّأ المدينة مكانتها ضمن أوائل المراكز الحاضنة للثقافة الفكرية الإسلامية.

إلا أن الكاتبة تنبِّه إلى خصوصية تجربة هذا المركز باندماجه في السياق الصيني، وهي العملية الموصوفة بدقة في كتاب جوناثان ليبمان «غرباء أليفون: تاريخ المسلمين في شمال غرب الصين»، وهو عبارة عن دراسات حول المجموعات العرقية في الصين. وللتوضيح، تشرح الكاتبة أن النصوص الإسلامية دُرِّست جنبًا إلى جنب النصوص الكونفوشيوسية، ونجم عن ذلك ولادة مجموعة منتقاة من الكتابات الإسلامية.

ومن ثم تنتقل الكتابة إلى شيجوان «Xiguan» أقدم مسجد في سوجو، ويعود اسمه للجسر المجاور في وسط المدينة القديمة. بُني هذا المسجد في القرن الثالث عشر خلال عهد أسرة يوان، وربما موَّلته عائلة السيد المسلمة والمرموقة، وتحديدًا السيد آجل شمس الدين عمر البخاري، الذي كان أول حاكم إقليمي في يونان، وذاع صيته وتأثيره.

دُمج المسجد لاحقًا في مبنى حكومي خلال عهد أسرة مينج، لذلك لم يتبق سوى الروايات المكتوبة التي تتحدث عن وجوده في السجلات الصينية المحلية. تقول الكاتبة إن في ذلك دلالة على تفضيل أسرة يوان للمسلمين من آسيا الوسطى في إدارتها وخدمتها الحكومية، وأن هذه المعلومة تعد ضمن الآراء التأريخية المتفق عليها بالفعل. صُنِّفت هذه الجماعة السكانية الكبيرة لاحقًا بوصفها أقلية هوي في الصين (وذلك في الخمسينيات من القرن الماضي)، وتشكل الآن حوالي نصف مسلمي الصين.

آثار الماضي

تسببت الثورة الثقافية (1966- 1975م) بـ«حظر» الإسلام فعليًّا في الصين، إذ عُدت كل الأديان على اختلافها أدوات لقمع وإسكات احتياجات الناس، ومُورست الضغوط المكثفة واللجوء للعنف للقضاء عليها. نتيجة ذلك؛ لم يتبق سوى القليل من آثار تلك المباني الدينية.

صحيح أن الحملة طالت المباني الدينية بالكامل، لكن الكاتبة توضح أن بعض الآثار ما تزال موجودة، أشياء من قبيل باب، أو حجر، أو واجهة معمارية، أو ببساطة عنوان محدد مسجل في الأراشيف، أمور صغيرة لكنها تمثيلات رمزية لحياة سابقة. تصف الكاتبة هذه الآثار بأنها أدلة جيدة على السياق الاجتماعي المتنوع، والجانب الروحي الذي كانت هذه الأماكن تمثله وتلهمه.

تنقل الكاتبة ملاحظة عالم الصينيات الأمريكي وأستاذ التاريخ بجامعة برينستون، فريدريك موت، الذي يقول بأن ماضي سوجو متجسد في الكلمات وليس الأحجار، ويمكن لشظايا وآثار مجتمعات سوجو الإسلامية أن تُجمَّع بمساعدة السجلات التاريخية المكتوبة. تعد هذه السجلات للتاريخ المتنوع للمكان ذات أهمية، خاصة للمستقبل في بلد تخضع فيه الأديان جميعها لرقابة حكومية صارمة؛ إذ تنظر السلطات إلى الأديان بوصفها قوى سياسية من المحتمل أن تتسبب في زعزعة الاستقرار.

تختتم الكاتبة بالتذكير بالتقارير الأخيرة الصادرة بشأن ما يُسمَّى بمعسكرات «إعادة التثقيف» أو «إعادة التأهيل» التي تقوم بها السلطات الصينية تجاه سكان الإيغور في شمال غرب الصين، وهو ما يعقِّد من الوضع أكثر ويجعل الأمر أكثر جدارةً بالمزيد من المتابعة والرصد والبحث.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي