الأعجوبة المهددة.. هل سيتمكن علماء الآثار من إنقاذ آثار بابل؟

Beleagured Babylon: The battle to save a wonder of the ancient world
2021-02-16

تقاتل مدينة بابل القديمة في العراق الحديثة من أجل البقاء وسط حصار من تسريب المياه الجوفية وما تُمثله الحضارة الحديثة من تهديدات ومخاطر، فضلًا عن عامل الزمن.

في ظل ما تواجهه مدينة بابل الأثرية القديمة من تهديدات حديثة ومخاطر انهيار جدرانها، يحاول دعاة الحفاظ على الآثار التاريخية مساعدة المدينة الآيلة للتداعي في الفوز بمعركتِها. وحول هذا الموضوع، أعدَّت جاين عراف، وهي مراسلة صحافية كندية، تقريرًا نشرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، سلَّطت فيه الضوء على الجهود المبذولة للحفاظ على أحد أهم مواقع التراث العالمي بحسب منظمة اليونسكو. في ظل تضافر جهود الحكومة العراقية مع مجموعة من علماء الآثار في مشروع الصندوق العالمي للآثار والتراث لوقف الضرر الذي لحق بالمدينة العريقة.

بابل: موقع أثري عالمي في قائمة اليونسكو

استهلت الكاتبة تقريرها بمشهد يلتقِط فيه عمار الطائي، وهو عالم آثار عراقي، قشرة طينية سقطت من على أحد الجدران البالية لمدينة بابل. ووجد عالم الآثار بصماتٍ لمخالب كلب كان قد مشى على هذه القشرة الطينية الجافة قبل أكثر من ألفي عام، وطمَسَ جزءًا من النقش المسماري (نوع من الكتابة التي تُنقش فوق ألواح الطين، والحجر، والشمع، والمعادن) المرسوم عليها؛ مما يقدم لنا رسالة تذكيرية بأن أطلال هذه المدينة كانت ذات يوم تنبض بالحياة. يقول الطائي، الذي يبلغ من العمر 29 عامًا: إن «هذا هو تراث العراق، ويجب علينا أن ننقذه».

تقول الكاتبة: إن الطائي، أحد علماء الآثار المنتمين إلى الجيل الجديد، يعمل لصالح الحكومة العراقية في مشروع صندوق الآثار العالمي الذي يهدف إلى وقف الأضرار التي لحقت بأحد أشهر المواقع الأثرية في العالم. وقد آتت سنوات من الجهود العراقية أُكُلها عندما أدرجت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو) مدينة بابل في يوليو (تمَّوز) 2019 ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، وهذا يمثل اعترافًا من المنظمة بالقيمة الثقافية العالمية الاستثنائية للمدينة التي كانت تُعد الأكثر إبهارًا في العصور القديمة. ولكن لكَ أن تتصور حجم التلف الذي لحق بهذه المدينة الأثرية مؤخرًا.

الألمان نهبوا بوابة بابل الشهيرة

وتوضح الكاتبة أنه قبل قرن من الزمان نهب علماء الآثار الألمان أحد أهم أجزاء المدينة، وهي «بوابة عشتار»، التي أُعيد تجديدها وبناؤها باستخدام البلاط المزجج الأصلي، لكي تصبح إحدى القطع الأثرية المعروضة في متحف بيرجامون في العاصمة الألمانية برلين. وبِيعت قطع أخرى من جدران مدينة بابل لمؤسسات أخرى، مثل متحف متروبوليتان في نيويورك.

وكما هو الحال بالنسبة لعديد من المواقع الأثرية في العراق، أصبحت مدينة بابل حاليًا في حالة يُرثى لها. إذ أدَّت عوامل الطبيعة وعمليات إعادة الإعمار إلى انهيار جدران المدينة، وهدَّدت مشاريع البناء ومد خطوط أنابيب الوقود مناطقَ شاسعة من المدينة الضخمة التي لم يُنقَّب عن كثير من آثارها بعد.

وأردفت الكاتبة قائلةً إنه على الرغم من انشغال العراقيين بالوضع الأمني غير المستقر في البلاد والأزمات السياسية والاقتصادية الحرجة، لم تزل قلوبهم متعلقة ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمدينة التاريخية.

وتسرد الكاتبة قائلةً: زُرتُ مدينة بابل لأول مرة في تسعينات القرن المنصرم. وفي مدينةٍ يحكمها صدام حسين بقبضة من حديد، كان أكثر الأوقات إثارةً للبهجة بداخلي أثناء الزيارة حينما كنتُ أشاهد العائلات العراقية تنسى همومها هناك ولو لبضع ساعات.

وبعد إعادة تجديد «بوابة عشتار» لتبدو أقرب إلى أعمال «ديزني لاند»، كان بمقدور زائر المدينة اختيار إحدى البطاقات البريدية من أحد الرفوف المعدنية الدوَّارة، ووضعها في صندوق البريد المعدني. والآن تراكم الصدأ على هذا الصندوق، وصار مهجورًا، وفرضت الشرطة، التي تحرس الموقع، سيطرتها على محل التذكارات.

وتابعت الكاتبة قائلة: وبعد سنوات من الصراع وعلى الرغم من أن العنف لم ينتهِ تمامًا، أصبح العراق آمنًا بالقدر الكافي الذي يُمكِّن شباب العراق الذين لم يزوروا معظم معالم بلادهم من الذهاب إلى مدينة بابل. وخلال عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة، توقف أحمد جواد وأصدقاؤه في الجامعة لالتقاط بعض الصور الذاتية أو المعروفة باسم «السيلفي» أثناء مرورهم بشارع الموكب (الذي يُعد الشارع الرئيس لمدينة بابل) حيث استعرض ملوك بابل تماثيل ما يعبدونه من الآلهة والإلهات. يقول جواد، البالغ من العمر 23 عامًا، وهو طالب في كلية الآداب: «الآثار رائعة وتبعث في روحي الطمأنينة».

جزء من الهوية العراقية

ولفتت الكاتبة إلى أن جواد يشبه كثيرين من الشعب العراقي؛ إذ يشعر أن ماضي بابل جزء لا يتجزأ من هويته العراقية، وليس مجرد تاريخ قديم. في الوقت الحالي لا يشاهد زائر الموقع، الذي يبعد حوالي 50 ميلًا (80 كم) جنوب بغداد، سوى رسم موجز متطور لجزء صغير من المدينة، بما في ذلك الجدران التي كانت تسند «بوابة عشتار».

وظلت مدينة بابل لمئات السنين حتى منتصف القرن العشرين ينظر إليها أهل المدن المجاورة بالهوان والخزي بسبب تفكيك جدرانها لأخذ اللَّبِنات التي يعود تاريخها إلى العصور القديمة لاستعمالها في مشاريع البناء الخاصة بهم.

وذكرت الكاتبة أن مدينة بابل التي يبلغ عمرها 4 آلاف عام ورد ذكرها مئات المرات في الكتاب المقدس، إذ كانت عاصمة الإمبراطورية البابلية القديمة، ونُظِر إليها باعتبارها أكبر مدينة في العالم. ويعود أصل شريعة حمورابي (مجموعة قوانين بابلية يبلغ عددها 282 مادة قانونية سجَّلها الملك حمورابي سادس ملوك بابل)، وهي أحد أقدم مواد القانون وأساليب معاقبة المدانين المُسجَّلة،

إلى حضارة بابل. وكذلك يرجع الفضل في التطور بعلم الفلك وغيره من العلوم إلى حضارة بابل. وسقطت الإمبراطورية البابلية في عام 539 قبل الميلاد في قبضة الإمبراطورية الفارسية، وظلَّت تحت سيطرتها لقرنين من الزمان، ومات الإسكندر الأكبر في بابل. لكن بعد انهيار إمبراطورية الإسكندر تُرِكَت مدينة بابل في نهاية المطاف.

صحيحٌ أن بعض جدران بابل التي تحمل التماثيل الجدارية والنقوش المصنوعة من الطين، والتي تعود لأكثر من 2500 عام، وتُصور التنانين والثيران التي ترمز للآلهة، لم تزل قائمة. لكن عددًا من طوب الجدران يتساقط وينهار، وتتعرض الجدران بالكامل، مع ارتفاع منسوب المياه الجوفية، لخطر التداعي والانهيار. وبحسب تقديرات خبراء حماية الآثار التاريخية تحتاج عملية إنشاء نظام لمنع تسريب المياه إلى عشرات الملايين من الدولارات.

تداعي جدران بابل

وفي هذا الصدد، أوضح جيف ألين، خبير حماية الآثار التاريخية، والذي يدير مشروع منظمة الصندوق العالمي للآثار والتراث في العراق منذ عام 2009، قائلًا: إن «لَبِنات الجدران في هذه المنطقة تتعرض مرارًا وتكرارًا للمياه والجفاف وارتفاع نسبة الأملاح، ثم تنهار بعد ذلك». وتتآكل لَبِنات الجدران بسبب الملح المجفف النابع من المياه الجوفية، وتنهار بعض اللَبِنات المجففة في الشمس حرفيًّا بمجرد لمسها.

وتستدرك الكاتبة قائلة: لكن أكبر التهديدات التي يتعرض لها موقع بابل الهش، كما كان الحال في كثير من الأحيان بالنسبة لأية مدينة على مر السنين، يكمن فيما يقوم به الإنسان ويفعله. إذ تبني وزارة النفط العراقية، داخل أسوار مدينة بابل الخارجية، محطة قياس بالعدادات لأحد خطوط الأنابيب الثلاثة التي صُمِّمت في السنوات الأخيرة.

بالإضافة إلى بناء عدد من المنازل الخاصة داخل محيط الموقع. وفي حين أن المسؤولين العراقيين قطعوا أشواطًا كبيرة لحماية الموقع والمحافظة عليه خلال المنافسة للحصول على تصنيف موقع التراث العالمي المطلوب، لكن يبدو أن هذه الجهود تراجعت منذ ذلك الحين.

وفي السياق ذاته يقول ألين: «إنه من دواعي الفخر أن تُصنَّف بابل موقعًا للتراث العالمي، وخلال هذه العملية كان مجلس الدولة للتراث قادرًا على أن يجعل الناس يحسنون التصرف على نحو أفضل»، واستدرك قائلًا: «لكن في الوقت الحالي صار من الصعب على ما يبدو إيقاف عملية البناء غير القانونية».

غيض من فيض من الأضرار

وألمحت الكاتبة إلى قيام متعاقدين مع الجيش الأمريكي بعد غزو العراق في عام 2003 ببناء قاعدة في الموقع الأثري، وحفروا خنادق داخل الموقع، بالإضافة إلى ركوبهم لعربات مدرعة في الشوارع المتهالكة وهي تحمل أكياسًا مملوءة بالتراب الممزوج بقطع مكسورة من الأواني الخزفية والفخارية. وقد أفاد تقرير أصدره المتحف البريطاني أن كل هذه الأمور أدَّت إلى إلحاق أضرار بالغة بالمدينة الأثرية.

 ومع ذلك لم يكن هذا هو الاعتداء الأول على موقع مدينة بابل التاريخي – بحسب الكاتبة – إذ مدَّت بريطانيا في عشرينات القرن الماضي خطوط القطارات عبر الموقع الأثري بوصفه جزءًا من خط سكة حديد يمتد من بغداد إلى البصرة. ولاحقًا شيَّدت العراق طريقًا سريعًا قريبًا من الموقع الأثري.

وإلى جانب ذلك بحسب ما تضيف الكاتبة فإن صدام حسين، الذي كان يرى في نفسه خليفة للملك نبوخذ نصر، بنَى في الثمانينات قصرًا ضخمًا يطل على بقايا الآثار المنقبة. وأمر صدام أيضًا بإعادة بناء أجزاء من مدينة بابل؛ مما تسبب في معظم المشاكل التي تواجه عملية الحفظ الراهنة. إذ وُضعت اللَّبِنات الحديثة الأثقل وزنًا فوق اللَّبِنات الأصلية القديمة. وحبَسَت الأرضيات الأسمنتية المياه، بينما أدَّى السقف الأسمنتي المشيد فوق أحد المعابد القديمة إلى هبوط مستوى الصرح بأسره.

هل يمكن إنقاذ بابل؟

واستشهدت الكاتبة بما قالته جوزفين ديلاريو، أخصائية العمارة الترابية الإيطالية التي تعمل في الموقع حاليًا، بأنه «خلال حقبة السبعينات والثمانينات كان من المعتاد استخدام الأسمنت، وبعد مرور عقود من الزمان نرى أن الأسمنت يتسبب في إتلاف الأشياء». وبعد تأخير دام عامًا كاملًا بسبب جائحة كوفيد-19، عاد فريق الصندوق العالمي للآثار والتراث إلى بابل ليتخذ قرارًا بشأن أفضل السبل لمعالجة الأضرار في المواقع، إذ إن محاولات إزالة الخرسانة يمكن أن تتسبب في مزيد من الأضرار.

من جهته، دعَّمَ مشروع مستقبل بابل التابع لصندوق غير ربحي، والمُموَّل جزئيًّا من وزارة الخارجية الأمريكية، الجدران الآيلة للسقوط وثبَّت تمثال أسد بابل الشهير. وذاك بالإضافة إلى تدريب فنيِّ الصيانة العراقيين وإسدائهم النصيحة والمشورة اللازمة بشأن إدارة الموقع.

ونوًّهت الكاتبة إلى أن بابل كانت حاضرة حضورًا بارزًا في مُخيِّلة العالم، إلا أن كثيرًا من أسرار المدينة التاريخية وحقائقها لم تُكشف بعد. إذ لم يكشف علماء الآثار عن أي دليل أثري بشأن حدائق بابل المعلقة، المعروفة بأنها إحدى عجائب الدنيا السبع في العصور القديمة. كما لم يُحدد موقع الزقورة الذي قيل إنه برج بابل الموصوف في العهد القديم من الكتاب المقدس.

الغموض يكتنف المدينة العريقة

وخلصت الكاتبة إلى أن قدرًا كبيرًا من الغموض الذي يلف المدينة، التي تبلغ مساحتها 4 أميال مربعة (6.4 كم²)، يكمن في أن معظمها لم يخضع للتنقيب أو حتى المسح.

وفي هذا الشأن أوضح أولوف بيدرسن، الأستاذ الفخري في علم الآشوريات بجامعة أوبسالا السويدية ومستشار الصندوق العالمي للآثار والتراث، قائلًا: «لم يُنقَّب سوى عن بعض المباني الكبيرة والمعروفة، بينما لم يزل معظم أجزاء المدينة لا نعرف عنه الكثير. ونظرًا لأن الملك نبوخذ نصر شيَّد القصور والمعابد فوق أنقاض سابقتها، فهناك طبقات كاملة من المدينة تحت الأرض وتحت الماء».

واختتمت الكاتبة تقريرها بما قاله بيدرسن، أحد أبرز الخبراء العالميين في علم آثار بابل: إنه «لا يسعنا سوى التخمين بشأن مدى عمق المدينة». أما فيما يتعلق بآثارها وكنوزها التي تقبع داخلها، فقد أكَّد بيدرسن أنه ببساطة لا يملك أحد أدنى فكرة عن كل ذلك.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي