مسرحيّة مصرية تُناقش أوهام الانتظار وقسوة الحياة

حنان عقيل:
2020-11-30

السرير بطل من أبطال العرض

نظرا إلى أن المفاهيم الذكورية من أبرز العوامل التي عزّزت القيود على المرأة، انطلقت بعض الحركات النسوية المتطرفة في الدفاع عن حقوق المرأة بالهجوم على الرجل، وإنكار دوره وأهميته. وهذا ما وقفت عنده وتصدت له مسرحية “جنة هنا” التي عُرضت على مسرح الغد بالقاهرة أخيرا.

يُفتتح العرض المسرحي على منظر مسرحي مميز يشي بتناقض بين حالتين، نهار وليل، مستقبل وماض، قديم وحديث، توق إلى الحريّة وتقيد بأغلال الماضي. 

ديالوج مستمر

رمزية "السرير" بين الأجيال

يبدأ الحوار بتلك الحالة من الصراع بين الأم هنا، المتمسكة بالماضي بكل ما يحمله من ذكريات هانئة، والابنة جنة، التي تتوق إلى التخلص من ذلك الماضي بكل أحماله الثقيلة، لكنها في الآن ذاته مُعذّبة في تطلعاتها المستقبلية بماض عاشته فقط في خيالها، وودّت لو أنها عاينته في واقعها.

يُختزل الماضي بكل ما يحمله من ذكريات في العرض المسرحي في صورة الأب الغائب المعلقة على الحائط، والسرير النحاسي العتيق الذي تود الابنة التخلص منه، ويدور جدالها مع الأم حول جدوى الاحتفاظ به، لكن العرض منذ بدايته بدا مُرتبكا على مستوى الفكرة والحوار، بدءا من عتبته الأولى “جنة هنا” التي لم تكن ذات دلالة خاصة وإن كانت الكلمتان هما اسمي الأم وابنتها، لكنها غير ذات اتصال مُعبِّر عن مضمون العرض أو

فكرته. استند العرض الذي قامت ببطولته عبير الطوخى وهالة سرور، بالاشتراك مع أحمد الشريف، على الديالوج المستمر بين الأم وابنتها حول “السرير” المتهالك وجدوى بقائه كرمز لماض قد مضى بذكرياته، وترى فيه الأم معنى لحياتها ووجودها فيما تظن الابنة أنه بلا قيمة.

وجعلت حالة الارتباك المتمثلة أساسا في النص الذي كتبته صفاء البيلي، العرض المسرحي مشتتا بين الذكريات وجدواها، وغياب الأب عن الأسرة وأثر ذلك السلبي على أفرادها.

لم ينجح العرض في الجمع بين الفكرتين في خط درامي واضح  وجذاب على مستوى الحوار، فالجزء الأكبر من العرض دار بين الأم وابنتها حول جدوى الاحتفاظ بالسرير، وللتغلب على رتابة الحوار بينهما، جاء تداخل بائع “الروبابيكيا” في محاولة لإضفاء حس كوميدي على الحوار، بدا غريبا على سياق العرض ومضمونه، وكأن إقحامه مجرد محاولات لانتزاع الضحكات من المشاهدين بالتركيز على كلمات البائع التي يكررها بالطريقة ذاتها.

ودار الجزء الثاني من الحوار حول تلك الحاجة النفسية والعاطفية لدى الابنة إلى أبيها الغائب عنها من قبل مولدها، وما ترتب على ذلك من هشاشة نفسية اعترتها طوال حياتها وحاجة عاطفية لم يُقيّض لها الإشباع حتى بالزواج الذي أخفق وانتهى بالطلاق، وهو ما جعلها غاضبة من الرجل الذي لا يحضر في حياتها سوى بأوراق جافة وصورة باهتة مُعلّقة على الجدار، بينما عاشت سنوات عمرها تحلم بوجوده معها وبعودته إليها.

عبر رمزية “السرير”، وما يشير إليه من مدلولات في العرض المسرحي، جرت مساءلة العديد من التقاليد البالية التي تضيّق الخناق على المرأة، منها تلك العادات الموروثة عن الآباء والأجداد،والتي لم تُمنح لها الفرصة للمراجعة أو الرفض، وختان الإناث الذي تنتهك فيه حرمة الفتاة الجسدية لتصير في شبابها بلا مشاعر أو رغبات جنسية ما يعزز من المشكلات الزوجيّة. وتلك القوة الكاذبة التي تدعيها الأم في غياب زوجها عنها لتصير الذكرى التي جمعتهما على ذلك “السرير” رداء شفافا لا يستر عورة حاجتها النفسية والعاطفية.

كان من الممكن تقديم صياغة أكثر إحكاما لديالوج مُعبر عن فكرة متماسكة تنطلق من رؤية نسوية جادة ومتزنة، تؤمن بالانفتاح على آفاق المستقبل والتخلص من أغلال الماضي وقيوده غير المنطقية أو المفهومة، وفي الآن ذاته الانطلاق من قناعة بأهمية الأسرة ودور الرجل فيها بالنسبة إلى المرأة، ليس على مستوى الاتكالية التي تُفقد المرأة أهميتها وتشوش على جوهر وجودها، لكن على المستوى العاطفي الذي يُحقق وجود الأب في حياة زوجته وأبنائه فيه دورا لا بديل له.

عناصر فنيّة متعددة

همسات رقيقة تبحث عن سبب الاحتفاظ بالسرير

تؤمن الابنة بأن ذلك الماضي بكل ما يحمله من ذكريات ينبغي التخلص منه فيما تدافع الأم بقوة للحفاظ على ماضيها وذكرياتها، ما يجعلها تحاول باستمرار التظاهر بالتماسك إلى الحد الذي جعلها تُخفي خبر وفاة الأب عن الجميع، وكأنها تود إنكار الحدث، وترفض إظهار ضعفها وهشاشتها التي خلّفها ذلك الفقدان.

ومن خلال عناصر فنيّة متعددة أجاد صناع العمل توظيفها بصورة جذابة في العمل الفني، تشكّلت الأفكار بصورة جذابة مكنت من التغلب على هنات الكتابة.

  عبر رمزية "السرير" وما يشير إليه من مدلولات في العرض المسرحي، جرت مساءلة العديد من التقاليد البالية

كانت الاستعراضات والتعبير الحركي الذي صممه حسن شحاتة، مع الأشعار المميزة للشاعر مسعود شومان، وألحان أحمد الناصر، من أبرز نقاط القوة في العرض المسرحي، وأخرجته من نطاق صراع ومشادات كلامية تقليدية بين أم وابنتها إلى أفق أوسع عكس حالة من التطلع إلى المستقبل والتخلص من أغلال الماضي والرغبة في التحرر، حتى من أسئلة الذات المثقلة بآمالها المجهضة، فضلا عن منحه أبعادا إنسانية أكثر شمولية. تضافرت مع الاستعراضات خيارات فنيّة ثريّة أنقذت العرض من تقليديته، منها المناظر المسرحيّة، وهي من تصميم مي زهدي، وجاء معظمها رمزيا بما يعزز فكرة التناقض والصراع والتشتت بين واقع وحلم، وماض ومستقبل.

ومثلت قطع الديكور دلالة مهمة في تلك الثنائية الضديّة، فهناك التسريحة العتيقة أمام السرير المتهالك، وهما القطعتان الممثلتان لعالم الأم بما يمثله من تمسك بالإرث والماضي، في مقابل التسريحة الحديثة والكتب، كممثلين لعالم الابنة.

وعكست الملابس في العرض مدلولات ذات صلة بمضمون العرض، فالأم وابنتها يرتديان الثوب بلون أبيض مع أسود، والفتيات المقدمات لاستعراضات العمل المسرحي يرتدين أثوابا بنفس اللونين، ما يعزز فكرة الاشتراك في واقع متماثل مكبل بالعادات ذاتها، ولا يحمل من خيارات الحياة سوى الأبيض أو الأسود.

أجاد المخرج محمد صابر في تعزيز تلك الحالة الرمزية الثريّة في العمل من خلال توظيف خيال الظل في أكثر من موضع، فبينما يسترجع الحديث بين الأم وابنتها أحد المشاهد من الطفولة، كحادثة ختان الفتاة في طفولتها، يأتي خيال الظل ليقدم المشهد في الخلفية كما ترويه الابنة، واستخدامه وقت الاستعراضات التي تصبح مع وجود خيال الظل في الخلفية راوية لقصة العمل، ومُعبرة عن مصير مشترك وقصة تتكرر.

واستخدمت الإضاءة لتسليط الضوء على بؤرة الأزمة في أكثر من موضع، إذ ركزت على صورة الأب لتأكيد تجسّد الأزمة في غيابه، وحينما ينتهي العرض المسرحي بوفاة الأم وتلك الحالة من الوحدة التي تجد جنة نفسها في أوجها، تأتي صورة الأم في مقابل الأب في تركيز بؤرة الضوء لتعزز الشعور بحجم الفقدان الذي صارت الفتاة تحيا في كنفه.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي