عنف الشرطة في جنوب أفريقيا لا يفرِّق بين أسود وأبيض

مصدر: In South Africa, Police Violence Isn’t Black and White
2020-10-28

نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية مقالًا أعدَّه يوسابيوس مكيزر، محلل سياسي ومؤلف مقيم في جوهانسبرج، عن أعمال العنف التي تمارسها الشرطة في جنوب أفريقيا، مُلقيًا الضوء على قضية مقتل أحد المراهقين السود في جوهانسبرج؛ الأمر الذي كشف عن حالة العلاقات العِرْقية المشحونة في جنوب أفريقيا، وكيف أن التسلسلات الهرمية العِرْقية التي خلَّفها التمييز العنصري ما تزال تعصف بالبلاد.

استهل الكاتب المقال بقوله أحيانًا تكشف عمليات القتل الجائرة ما ينطوي عليه قلب الأمة من جراح ونُدوب عميقة. وهذا ما حدث حينما أطلقت الشرطة الرصاص، مساء الأربعاء في 26 أغسطس (آب)، على المراهق ناثانيال جوليوس البالغ من العمر 16 عامًا  بالقرب من جوهانسبرج وأرْدَته قتيلًا. وكان هذا العمل الوحشي قد لفت أنظار الجميع لعدة أسباب على الرغم من اعتياد الشرطة في جنوب أفريقيا على ممارسة مثل هذا العنف. وكان ناثانيال المصاب بمتلازمة داون متوجهًا لشراء البسكويت من أحد المتاجر القريبة وقُتل على بُعد عدة أمتار من منزله دون أي سبب واضح. وبعد مقتله اعتدت قوات الشرطة على كثيرين من أبناء الحي الذي يقطن فيه اعتداءً غير مبرَّر.

الديناميات العِرْقية لهذه القضية

أوضح الكاتب أن الديناميات العِرْقية لهذه القضية – ولجنوب أفريقيا بصفة عامة- قد أربكت معظم المراقبين الخارجيين؛ ففي الوقت الذي ظهرت فيه حركة «حياة السود مهمة» في الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعنى بالأشخاص السود مباشرةً وتهدف إلى التخلُّص من العنف ضدهم، نجد أن الوضع بات أكثر تعقيدًا في جنوب أفريقيا. وأتاح الفصل العنصري والتاريخ الاستعماري للبلاد تصنيفات عِرْقية أكثر دقة، والتي أحدثت شرخًا إداريًّا واجتماعيًّا سياسيًّا بين السود والملونين (أشخاص ينحدرون من أصول صحراوية أفريقية مختلطة، ولكن القانون الجنوب أفريقي لا يعدهم من السود؛ لأن عرقهم ليس أسود بما فيه الكفاية).

ونوَّه الكاتب إلى أن وحشية قوات الشرطة ذات الغالبية السوداء واستخدامها للعنف المفرط في ضاحية إلدورادو بارك، أثار غضب السكان المحليين؛ حيث إن حادث مقتل ناثانيال قد أكَّد اعتقادهم بأنهم تعرضوا للتهميش والاضطهاد خلال حقبة الفصل العنصري تحت حكم العنصريين البيض، والآن يواجهون المصير نفسه خلال حقبة ما بعد الفصل العنصري في ظل حكم الزعماء السود.

وأصبح الأمر أكثر أهمية لأن الضابطة التي أطلقت النار تنتمي إلى المجتمع الملون. وزاد غضب السكان بسبب أن قوات الشرطة تمثل حكومة الدولة التي يقودها السود ويُنظر إليها على إنها مؤسسة عنصرية ضد السكان المحليين الملونين. وبغض النظر عن هوية أفراد الشرطة، لا يمكن لمجتمعٍ عانى كثيرًا من وحشية ممن يُفترض بهم تطبيق القانون والنظام، أن يثق في القوة أو السلطة.

إن التمعُّن في العلاقة بين السود والملونين يعزز مدى ما كانت عليه الإمبريالية المقيتة والتمييز العنصري، ويسمح للغرباء عن جنوب أفريقيا بفهم أوضح للسياسات العنصرية المعاصرة فيها. وتُعد سياسة الهوية محل نزاع حاد في جميع أنحاء العالم، لكن الحقيقة هي أنه لا أحد منا، بما في ذلك المشككون في سياسات الهوية، بدون هوية، حتى لو فرضها المجتمع علينا. وتكشف تجربتي الخاصة عن بعض الحقائق الصارخة عن بلدي جنوب أفريقيا التي نشأتُ فيها بصفتي مواطنًا ملونًا.

حكومة الفصل العنصري

بعد مدة وجيزة من وصول حكومة الفصل العنصري إلى السلطة (حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 حتى إلغاء النظام من 1990 إلى 1993)، أصدرت هذه الحكومة تشريعات تحدد هوية كل مجموعة عِرْقية. وصُنِّف الناس وفقًا للمعايير التعسفية التي تتبناها الدولة؛ والتي تضمنت لون الجلد، وملمس الشعر، وشكل الأنف وحجمه، وهو مؤشر يوضح لأي مجموعة عِرْقية ينتمي الشخص سواء البيض أو الملونين أو السود.

ولفت الكاتب إلى وجود عديد من المجموعات العِرْقية الفرعية المحددة بصورة تعسفيَّة أيضًا، إذ تُحدد فيها المجموعة العِرْقية التي ينتمي إليها الشخص اعتمادًا على قرارات غريبة من رجال الدولة البيضاء البيروقراطية. مما أدى إلى سيناريوهات سخيفة وغير عادلة؛ إذ كان من الممكن الفصل بين أعضاء العائلة الواحدة لأن المسؤولين صنَّفوا أفرادها ضمن مجموعات عِرْقية مختلفة.

فكرة تاريخية واهية

كان تصنيف هذه المجموعات العِرْقية مصحوبًا بقوانين أجبرت الناس على العيش في مناطق يوجد بها أفراد من المجموعة العِرْقية نفسها فقط. وأدَّت هذه الجغرافيا المكانية لنظام الفصل العنصري إلى انفصال مجتمعات الملونين والسود بعضها عن بعض. وكان ذلك تكتيك فَرِّق تَسُد الذي نجح على نحو جيد مع العنصريين البيض لدرجة أنه أصَّل لدى عديد من الأشخاص الملونين، على مدى تاريخ البلاد، الفكرة الواهية بأننا لسنا من السود.

يقول الكاتب: نشأتُ في مدينة جراهامستاون الحدودية في جنوب أفريقيا التي سُمِّيت على اسم جندي أسكتلندي من الحقبة الاستعمارية، العقيد جون جراهام، في أوائل القرن التاسع عشر. وقد تغير اسم المدينة إلى ماخاندا، وهو محارب ونبي من قبيلة الخوسا قاد هجومًا ضد الحامية البريطانية في جراهامستاون في عام 1819. وتغيير الأسماء لا يمكن أن يخفي الإرث الدائم للاستعمار الذي ما يزال يحدد جغرافية المدينة. كان الحي الذي قضيتُ فيه معظم الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي متجانسًا عِرقيًّا. وكنا في الغالب من تراث عِرْقي مختلط.

ولديَّ عديد من الذكريات الدافئة والإيجابية عن طفولتي المبكرة، ولدي أيضًا ذكريات مخزية عن العنصرية والتعصب الأعمى ضد السود. كانت والدتي تُخيفنا بـ«البانتو»، مصطلح عنصري لشخص أسود. ونشأنا على أن «البانتو» وحش مخيف.

أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في حياة جنوب أفريقيا هو أن عديدًا من العائلات الفقيرة والطبقة العاملة لديها عمال منازل. وكان معظم عمال المنازل والبستانيين من السود. وعُومِل البعض منهم معاملة لائقة ولكن عديدًا منهم تعرضوا لمعاملة سيئة من قبل العائلات الملونة. كان المتعصبون لتفوق العرق الأبيض ناجحين للغاية في مشروعهم السياسي للحفاظ على انفصال الجماعات العرقية، في محاولة للحفاظ على النقاء العرقي والتفوق الأخلاقي المفترض للبيض. وتمادت حكومة الفصل العنصري إلى حد إنشاء غرفتي برلمان منفصلتين وغير متكافئتين في الثمانينيات لتمثيل الأشخاص الملونين والشعب الهندي.

ولم أكن بمنأى عن هذه العنصرية. ولم أستطع أن أتخيل الانجذاب إلى السود جنسيًّا أو عاطفيًّا. وبدأت في التخلص من معتقداتي ومواقفي الموروثة المعادية للسود من خلال الصداقات والتجارب التي مررت بها اعتمادًا على التعرف على الهوية العِرْقية في المدرسة الثانوية والجامعة المختلطة الأعراق. ولكن بالنسبة لعديد من مواطني جنوب أفريقيا، ما يزال هذا التسلسل الهرمي العِرْقي والعَدَاء الذي أحدثه بين السود والملونين باقيًا.

نزع الهوية الأفريقية

وألمح الكاتب إلى أنه بعد إطلاق الشرطة النار، ردد عديد من السكان المحليين عبارة شائعة بين سكان جنوب أفريقيا الملونين «خلال نظام الفصل العنصري، لم نكن بيضًا بما فيه الكفاية! والآن نحن لسنا سودًا بما فيه الكفاية». وتجسد هذه العبارة الشعور بالإهمال من دولة الفصل العنصري والحكومة الديمقراطية الحالية.

ويكشف هذا عن عدة أشياء: يشعر الملونون بأنهم كَمٌّ مهمل ولا يؤبه لهم بسبب كونهم ملونين. ويرجع الفشل في وجود روابط بين السود والملونين إلى أن الاستعمار والفصل العنصري جعل الملونين يعتقدون أنهم ليسوا من السود أو حتى الأفارقة.

وجادل المؤرخ باتريك طارق ميليه بأن «نزع الهوية الأفريقية» عن الأشخاص الملونين يعود إلى عام 1911. وقد ترسخ هذا في منتصف القرن العشرين مع الإطار القانوني للفصل العنصري. وللأسف، هذا التاريخ الطويل هو ما أدى اعتقاد عديد من الملونين بأنهم متفوقون أخلاقيَّا على السود. وكانت إحدى طرق إهانة شخص ملون في الحي الذي كنت أعيش فيه هي اتهامه بالتصرف بصفته شخصًا أسود. وهذا، بالطبع، هو بالضبط ما قصده أنصار تفوق البيض.

وعلى الرغم من وجود أمثلة تاريخية للتضامن العابر للطبقات والأعراق (مثل العمل المناهض للفصل العنصري للجبهة الديمقراطية المتحدة في الثمانينيات)، فإن هذه الأمثلة قليلة في يومنا هذا. وهناك عديد من المجتمعات الملونة المزعومة في جنوب أفريقيا ذات الأنساب المختلفة. كما أنه هناك عديدًا من مجموعات السكان الأصليين ذات التراث العرقي المختلط.

ويريد بعض الأشخاص رفض تصنيف «الملونين» حتى لو لم يعرفوا بعد ما البديل له. ويصر آخرون، على الاعتراف بـ «نزع الهوية الأفريقية» عن الملونين واستعادة الصلات التاريخية الأعمق بين جميع الأشخاص الذين ليسوا من أصل أوروبي.

لكن الشوق الشديد إلى جنوب أفريقيا غير العنصرية، أو أي مشروع سياسي يهدف إلى تفكيك التمييز بين الملونين والسود، ينبغي أن يكون أمينًا بشأن مقدار العنصرية المعادية للسود التي يجب أن تتعامل معها المجتمعات الملونة، ومدى المعاداة العنصرية للملونين الموجودة داخل المجتمعات السوداء. ولا يستطيع مواطنو جنوب أفريقيا إنكار النجاحات النفسية التي حققها الاستعمار والفصل العنصري. ونظرًا لأن عديدًا من مواطني جنوب أفريقيا البيض يجب عليهم السعي لاجتثاث الشعور المتأصل بالتفوق، فإن ذلك لا يعني أن العلاقات بين الأشخاص الملونين والسود لا يتطلب اهتمامًا عاجلًا.

واختتم الكاتب مقاله قائلًا: قد تكون جنوب أفريقيا بمثابة منحة إلى الحركات العالمية مثل «حياة السود مهمة». إذ إنها توضح مدى صعوبة معارضة العنصريين البيض وضرورة القيام بذلك، وفي الوقت نفسه إلقاء نظرة فاحصة وطويلة على ذواتنا السوداء، والطريقة التي آذانا من خلالها العنصريون البيض.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي