هل يشهد الشرق الأوسط نزعة قومية جديدة؟

مصدر: A New Brand of Nationalism Takes Root in the Middle East
2020-09-07

نشر مركز «ستراتفور» الأمريكي مقالًا  لريان بوهل، محلل شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المركز، سلَّط فيه الضوء على قومية جديدة بدأت تضرب بجذورها وتنمو في منطقة الشرق الأوسط، لمجابهة الدعوات المنادية بالوحدة الإسلامية التي بات يُنظر إليها بوصفها تهديدًا محتملًا للأنظمة الحاكمة، كما سمح طراز القومية الجديد بتقهقر ترتيب القضية الفلسطينية في سُلَّم الأولويات الخاص بسياسات الحكومات العربية، أو الاتفاقيات التي تبرمها، وكانت اتفاقية التطبيع بين الإمارات وإسرائيل خير مثال على ذلك.

وفي مستهل مقاله يقول الكاتب بعدما كانت يومًا ما منقذًا لإمبراطوريات الشرق الأوسط المُحطَّمة، بات يُنظر إلى الوحدة الإسلامية ورؤيتها للخلافة الراشدة على نحو متزايد على أنهما تهديد لاستقرار المنطقة، في ظل تحوُّل دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية نحو القومية لتحديد سياساتهم وتعاملاتهم على أساسها. والحقيقة أنه حتى في تلك الدول التي ما تزال تدعي تجسيد مبادئ الوحدة الإسلامية العليا، مثل قطر وتركيا، فإنها تقوم بذلك من أجل تحقيق غاية قومية فحسب، ولإظهار قوة حكوماتها داخليًّا وخارجيًّا باستغلال دعواتها للوحدة الإسلامية. ويتجلى هذا التوجه مؤخرًا بوضوح مع إبرام اتفاقية التطبيع بين الإمارات وإسرائيل التي وجَّهت ضربة أخرى لفكرة أن المجتمع الإسلامي العالمي، رغم اختلافاته العديدة، يمكنه على أقل تقدير الاتفاق على قضايا بعينها كالقضية الفلسطينية.

مهد الحركة

وأوضح الكاتب أن حركة الوحدة الإسلامية ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى بوصفها أيديولوجية مضادة للمبادئ الأوروبية الزاحفة نحو الشرق. إذ بحث قادة الدول الإسلامية عن أنماط جديدة من الفكر السياسي للتصدي لتيار سيادة القوة الغربية، بعدما دمَّر الاستعمار الأوروبي الإمبراطورية العثمانية واحتل العالم الإسلامي. وتبنى بعض هؤلاء القادة نموذج قومية الدولة على غرار القوى الاستعمارية: فنال الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك (1923-1938م) شهرته من إسقاطه الخلافة الإسلامية السُنِّية محاولًا تحويل أنقاض الدولة العثمانية إلى دولة تركية حديثة لديها القدرة على المنافسة. وحاولت بعض الدول، غير تركيا، تبني الوحدة العربية (العروبة)، والتي تجسَّدت في نموذج الرئيس المصري جمال عبد الناصر (1954- 1970م)، والذي سعى إلى تشكيل عالم عربي موحَّد سياسيًّا. لكن العروبة انهارت سريعًا بعد تكبُّد مصر خسائر عسكرية كبيرة في حربها ضد إسرائيل في عامي 1967م و1973م، ووفاة عبد الناصر في عام 1970م. وهذا ما أتاح المجال لمن يسعون إلى تجديد الدعوة للحكم الإسلامي، مع اقتباس بعض جوانب الدولة القومية الغربية، بينما رفضوا التبني الكامل لطراز القومية العلمانية الأوروبية المثيرة للانقسام في أغلب الأحيان.

ويرى الكاتب أن الوحدة الإسلامية أسهمت في تشكيل العقود الاجتماعية (العقد المبرم على نحو فعلي أو افتراضي بين الحاكم والمحكوم) لدول الشرق الأوسط الناشئة التي دشَّنت مساراتها الخاصة في أعقاب زوال الاستعمار. إذ تبنى عديد من الدول التي كانت مؤسسة حديثًا نصوص الشريعة الإسلامية في صياغة دساتيرها وعمل محاكمها، وأُحيطت تقاليدها السياسية بمسميات وطقوس إسلامية. وفي حين أن بعض الدول اشتهرت بمقاومتها لنفوذ الوحدة الإسلامية، فإن معظم هذه الدول انصاعت لها أو تكيفت مع ضغوطات الإسلاميين المتزايدة في الداخل.

وقد أسهمت معارضة محمد رضا بهلوي، شاه إيران، للوحدة الإسلامية في إطاحته وإحلال الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979م محله. وأدَّى برنامج التجديد المتواضع نسبيًّا في السعودية في حقبة السبعينيات إلى قيام حركة إسلامية مضادة عنيفة في مكة في العام نفسه، والتي أقنعت الرياض بالتخلي عن جزء كبير من عقد البلاد الاجتماعي ومنحه للإسلاميين حتى عام 2010م. وحتى في العراق، انطلق صدام حسين، ذو التوجه العلماني شكليًّا، نحو الأسلمة في حقبة التسعينيات مع تراجع القومية العراقية بعد الهزيمة في الكويت، وأضاف جزءًا من العقيدة الإسلامية إلى العلم الوطني العراقي.

الوحدة شكلية وليست فعلية

وألمح الكاتب إلى أنه على الرغم من الدعوات المنادية إلى وحدة العالم الإسلامي، فإن الأيديولوجية التي استندت إليها الأسلمة أثبتت أنها غير قادرة على وضع حد للخلافات الوطنية بين الدول الإسلامية المختلفة، مثلما حدث في الحرب الإيرانية العراقية المُدمِّرة في المدة من 1980م حتى 1988م، متبوعةً بحرب الخليج في المدة من 1990م حتى 1991م، وألهمت فكرة الأسلمة المتطرفين، في نهاية المطاف، لتأسيس منظمات مثل تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة. وانقسم أنصارها حول الشكل الصحيح الذي ينبغي أن تبدو عليه فكرة الأسلمة: فدعا بعضهم، مثل أعضاء حزب العدالة والتنمية التركي، إلى تبني النهج التصاعدي للأسلمة من القاعدة إلى القمة، وفيه توجيه المجتمع وإدارته، ثم يأتي بعد ذلك التأثير في السياسات. بينما فضَّل آخرون، ومنهم الإسلاميون الشيعة في العراق وإيران، تبني النهج التنازلي من القمة إلى القاعدة، وفيه تحتل الأيديولوجية مركز السياسات وصدارتها. لكن ربما الأهم من ذلك، أن أنصار الوحدة الإسلامية لم يُظهروا إلا قدرًا ضئيلًا من تأكيد دعمهم للقضية الفلسطينية، وهي القضية الأكبر التي يُمكنها، من الناحية النظرية، أن تُوحِّد بين الدول الإسلامية كافة.

والحقيقة أن الوحدة الإسلامية لم تُقدِّم للفلسطينيين في صراعهم المستمر مع إسرائيل، سواء على الجبهة الدبلوماسية أم العسكرية، شيئًا يُذكر إلا القليل. وبينما كانت الأجنحة الأكثر اعتدالًا في حركة الوحدة الإسلامية تدعو عادةً إلى عزل إسرائيل حتى تقايضها على تسليم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة للفلسطينيين من أجل إبرام معاهدة سلام إقليمية، طغت دعوات متطرفي الحركة إلى تدمير إسرائيل على هذا الموقف المعتدل، وأبعدت حلفاء إسرائيل الأقوياء في الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، الذين كانوا عنصرًا أساسيًّا في تحقيق تسوية دولية. وبدورهم، اعتاد الدبلوماسيون الإسرائيليون تصوير الحركة بالكامل على أنها متطرفة، متذرعين بأن الحركات الإسلامية، عمومًا، تمثل تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل.

وأشار الكاتب إلى أن بعض الدول، خصوصًا الإمارات والسعودية، أجبرتها اضطرابات الربيع العربي في عام 2011م على التصدي المباشر لتنامي إمكانات الوحدة الإسلامية الثورية. إذ قدَّمت دوامة الثورة الفرصة للإسلاميين المعتدلين والراديكاليين أخيرًا ليحلوا محل الأنظمة الحاكمة ويستعرضوا قوتهم. وسيطرت جماعة الإخوان المسلمين على مصر وجيشها الضخم، بينما اندفع المتطرفون نحو الحرب الأهلية السورية وبدأوا في تأسيس دويلات بدائية لتصديرها إلى الخارج. وأثبتت هذه التطورات المزعجة، بالنسبة لبعض الدول،  ضرورة التغيير السريع للعلاقة الوثيقة بين الدولة والمسجد؛ لئلا تغدو الحركات الأخرى المناصرة للوحدة الإسلامية قوية بالقدر الكافي لإطاحة مزيد من الحكومات. وهرعت دول مثل عُمان والبحرين والسعودية إلى تأسيس الحركات القومية الناشئة بأقصى سرعة، واستهدفت حكومات هذه الدول تحويل الأسس التي ترتكز عليها عقودها الاجتماعية لتقوم على المبادئ القومية التي عمل المناصرون للوحدة الإسلامية على تقويضها لعقود.

ومع تحوُّل دول الشرق الأوسط نحو الحفاظ على الذات، أصبح إقحام نفسها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي غير منطقي أكثر فأكثر. أما تركيز الإمارات على القضية الفلسطينية، فكان الهدف منه تعزيز عقد اجتماعي متآلف للإسلاميين مع سكانها المحليين. لكن مع تغيير أبوظبي لتصورها للتهديد، لم يعد يُنظر إلى حركات الوحدة الإسلامية بوصفها جزءًا من نسيج العقد الاجتماعي، لكن بات يُنظر إليها على أنها حركات عميلة لسلوك ثوري خبيث محتمل. ونتيجةً لذلك، لم يقل ترتيب القضية الفلسطينية في سلم الأولويات فحسب، بل بدأت القضية تشكل ضررًا على المصالح الوطنية؛ إذ إن عزل إسرائيل حَرَمَ الإمارات من الوصول إلى التعاون التكنولوجي والتجاري والأمني ذي الأهمية المتزايدة مع إسرائيل.

قومية مقنعة في ثوب وحدة إسلامية  

واستدرك الكاتب قائلًا: لكن لم تتجه جميع الدول سريعًا نحو الابتعاد عن الأسلمة. إذ تجلت الوحدة الإسلامية، في ليبيا، في إبرام معاهدة حدودية بحرية مثيرة للجدل في عام 2020م بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني القريبة من الإسلاميين. وفي سوريا، يُشكل حلفاء تركيا ذوو الميول الإسلامية العمود الفقري للميليشيات المسيطرة على ما تبقى من مناطق المعارضة في الشمال الغربي؛ وبذلك تتخلص تركيا من ملايين اللاجئين السوريين الذين لن تستطيع تحمُّل التكاليف المتزايدة لاستضافتهم على أراضيها.

كما تواصل تركيا وقطر محاولة استخدام الوحدة الإسلامية لاستعراض قوتهما في الخارج، وذلك على الرغم من أن أهدافهما الجوهرية ما زالت على نحو متأصل أهدافًا قومية أكثر منها دينية. إذ يستخدم السياسيون الأتراك والحركات الإسلامية، في تركيا، السلطة لتحقيق المصلحة الذاتية التركية. كما أن تقارب تركيا مع جماعة الإخوان المسلمين مهَّد الطريق أمام قطر لإنشاء قاعدة عسكرية في الخليج العربي لأول مرة منذ أكثر من قرن، وهذا بدوره منح تركيا ثقة الدوحة الغنية، التي تدخلت في بعض الأحيان لتخفيف الأزمات التي تعاني منها العملة التركية على نحو متكرر.

وبحسب الكاتب، استخدمت قطر على وجه التحديد قوتها الإعلامية للترويج لرواية محلية تربط الإمارة الخليجية بحركة الوحدة الإسلامية، في محاولة لتعزيز شرعية نظامها الملكي، والذي يجب عليه أن يوازن بين نظام ملكي قبلي متصدع أحيانًا مع تاريخ من الانقلابات، وبين حملات التأثير السعودية والإماراتية طويلة الأمد. لكن قطر على الصعيد الخارجي، ما تزال ترى أن القومية الإسلامية وسيلة لتأمين نفسها؛ إذ ساعد قُرْب الدوحة من هذه الأيديولوجية على الحفاظ على العلاقات مع حماس، وهي فرع آخر من جماعة الإخوان المسلمين. وهذه العلاقات تُعَد قيِّمة بالنسبة لإسرائيل؛ لأنها تستخدمها لإبقاء نشاط حماس في قطاع غزة تحت السيطرة. وفي المقابل، يعزز الإسرائيليون صورة قطر بوصفها وسيط سلام إقليمي، لا سيما في الولايات المتحدة، ما يُقوِّض الهجوم الإماراتي والسعودي عليها، والذي يحاول إثبات عكس ذلك.

وحتى أثناء انخراطهما مع حركة الوحدة الإسلامية، يتضح أن تركيا وقطر تستخدمان الحركة لتحقيق المصلحة الذاتية أيضًا. ولا تحاول الدولتان تشكيل حركات إسلامية قوية بالقدر الكافي الذي يمكنها من الوصول للحكم، وأن تحل محل أنظمتهما الحاكمة. بل إن الإسلاميين، بدلاً من ذلك، يُعدُّون مجرد أداة تستخدمها أنقرة والدوحة في استراتيجياتهما الاجتماعية داخليًّا واستراتيجيات القوة الناعمة خارجيًّا، والتي تظل منسجمة مع أهداف البلدين الوطنية.

واختتم الكاتب مقاله بالقول: وبهذا، فإن رفض تركيا لاتفاق التطبيع الجديد بين الإمارات وإسرائيل، وتَحفُّظ قطر الحالي على الأمر نفسه، ليسا نابعين من أيديولوجيات الوحدة الإسلامية بل من الحرص على المصالح القومية. إذ إن التطبيع العلني للعلاقات مع إسرائيل، بالنسبة لكلا البلدين، يُمكن أن يُقوِّض علاقة النظامَيْن الحاكمَيْن مع أنصارهما الإسلاميين داخليًّا وخارجيًّا. كما أن مكاسب التطبيع عبر التجارة والدفاع وتحسُّن العلاقات الإيجابية مع الولايات المتحدة، في الوقت الحالي على الأقل، لا تستحق فقدان الشرعية الذي يمكن أن يضر بعلاقات أنقرة والدوحة. وفي الوقت نفسه، فإن تدهور القيمة الاجتماعية والسياسية لحركة الوحدة الإسلامية تعني أن الأيديولوجية لن تصبح ذات شأن كبير في سياسات تركيا وقطر وتصرفاتهما، وتظل مجرد مظهر خادع للقواسم المشتركة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي