ألم الفقدان في كتاب أميركي

2020-05-18

بغداد - يصدر قريباً عن دار «المدى» كتاب «نادني الأمريكي» لعبدي مور رافتين، بالاشتراك مع ماكس ألكسندر، وهو من ترجمة علي عبد الأمير صالح. وهنا مقتطفات منه:
بسرعة تتغير الحياة
في لحظة تتبدل الحياة.
تراك جالساً تتناول العشاء وإذ بالحياة التي تعرفها تنتهي.
أي شفقة على الذات تلك! في تلك الفترة غير واضحة المعالم، التي يسمونها الحداد، قد نغوص عميقاً في دواخلنا لنصل إلى القاع ونغرق في محيط من الصمت المطبق شاعرين بأمواج العمق تقترب تارة وتبتعد أخرى، لتلطمنا بذكريات تنقض علينا بلا هوادة.
ألم الفقدان، بقسوته التي من شأنها أن تخلخل العقل وتهز الروح، هو حقيقة استوقفت الإنسان بكل أهوالها. فعل الحزن، يقول فرويد في دراسته الصادرة في 1917 «الحداد والكآبة» Mourning and Melancholia «ينطوي على انحرافات خطيرة تنأى بنا عن نمط حياتنا الطبيعي». لكنه أشار أيضاً إلى أن ألم الفقدان تبقى له خصوصيته التي تميزه عن كل الاختلالات الأخرى: «لا نفكر أبداً في النظر إليه كحالة مرضية واللجوء إلى تدخل طبي لعلاجه»، بل نعوّل على فكرة أنه «سيتم التغلب عليه بمرور الوقت». ننظر إلى «أي تدخل طبي على أنه بلا طائل، بل يصل بنا الأمر إلى أن نعتبره مسيئاً». في بحثها الصادر في عام 1940 «الحداد وصِلته بحالات الهوس الاكتئابي» Mourning and Its Relation to Manic - Depressive States قدمت ميلاني كلاين تقييماً مشابهاً: «المحزون على فقد عزيز هو في الواقع شخص مريض، لكن كوننا ننظر إلى هذه الحالة على أنها ظاهرة شائعة وطبيعية، لا نعتبر الحداد حالة مرضية... لكي أتمكن من صياغة النتيجة التي خلصت إليها بصورة أكثر دقة يجب أن أقول إنه «في الحداد يعيش المحزون حالة عابرة ومحوّرة من الهوس الاكتئابي ويتغلب عليها». تراك جالساً تتناول العشاء وإذ بالحياة التي تعرفها تنتهي...
هكذا في نبضة قلب،
أو في غياب تلك النبضة...
الأشخاص الذين فقدوا عزيزاً تميّزهم نظرة معينة تُرى على وجوههم خلال الفترة القصيرة التي تعقب الفجيعة... نظرة قد لا يدركها سوى أولئك الذين قد ارتدوا هذه النظرة ورأوها على وجوههم. كنت قد لاحظت تلك النظرة على وجهي، كما لاحظتها على وجوه آخرين. نظرة مليئة بالضعف، بالعري، بالضياع. نظرة شخص خرج للتو من عيادة طبيب العيون فصعقه ضوء النهار بوهج جعل حدقتيه تتسعان، أو نظرة شخص يرتدي نظارات وأجبر على خلعها على حين غرة. هؤلاء الذين فقدوا عزيزاً يبدون عراة لأنهم يعتقدون أنهم غير مرئيين.
ينظر من فقد عزيزاً إلى الوراء فيرى إشارات ورسائل تبدت له لكنه لم يبصرها.
يتذكر الشجرة التي ذبلت، والنورس الذي لطخ غطاء السيارة بسلحه.
يعيش بالرموز. يقرأ المعنى في وابل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيه الذي يرد إلى جهاز الكومبيوتر الذي لم يستخدم منذ زمن، في مفتاح الحذف الذي ما عاد يعمل... ينظر إلى قرار استبداله كضرب من الخيانة.
اتضح أن ألم الفقدان هو مكان لا يمكن لأحد أن يدرك كنهه إلا بعد أن يصل إليه. نتوقع، أو نعلم، أن شخصاً من أعزائنا أو أقاربنا قد يموت، لكننا لا نفكر في الأيام والأسابيع القليلة التي تعقب هذا الموت المتوقع. حتى أننا نسيء تفسير معنى تلك الأيام والأسابيع القليلة المتبقية. ربما نتوقع أن نتعرض إلى صدمة تُخل بتوازننا إذا ما حدث هذا الموت فجأة. لكننا لا نتوقع أن تكون هذه الصدمة مدمرة ومخلخلة للعقل والجسد في آنٍ معاً. قد نتوقع أن نصبح مرضى ومحزونين ومختلين من هول هذه الصدمة. لكننا لا نتوقع أبداً أن نصبح مجانين بمعنى الكلمة، وعملاء «كول» في المستشفيات يعتقدون أن أزواجهم سيعودون إليهم قريباً وسيكونون بحاجة إلى أحذيتهم. في السيناريو الذي نتخيله عن ألم الفقدان، يكون النموذج هو «التعافي من الصدمة». حكم مسبق يفرض نفسه: الأيام الأولى التي تعقب الفاجعة ستكون الأسوأ. نتخيل أن اللحظة التي ستمتحننا بقسوة ستكون الجنازة، وبعدها ستبدأ مرحلة التعافي المفترضة.
في انتظار يوم الجنازة نتساءل ما إذا كنا «سنتجاوز المحنة»، وسنتعامل معها بثبات، وسنظهر «قوة» ستكون، بالنسبة إلى كل من يرانا، رد الفعل الأمثل في مواجهة حدث جلل كالموت. نتوقع أن نكون بحاجة إلى تحصين أنفسنا وتهيئتها من أجل تلك اللحظة: هل سأكون قادراً على مصافحة المعزين، هل سأكون قادراً على مغادرة المكان بعد ذلك، هل سأكون قادراً حتى على ارتداء ملابسي في ذلك اليوم؟ ما من وسيلة تمكننا من معرفة أن المحنة لن تكون في كل ما أسلف ذكره.
ما من وسيلة تمكننا من إدراك أن الجنازة بحد ذاتها ستكون عقارنا المهدئ، ونوعاً من النكوص المخدّر الذي نغلف به أنفسنا بمعونة الاهتمام الذي يشملنا به المعزون وجسامة الحدث ومعناه.
كما لا يمكننا أن ندرك مسبقاً، وهنا يكمن جوهر الفرق بين ألم الفقدان كما نتخيله وألم الفقدان كما هو في الواقع، ذلك الشعور اللامتناهي بالغياب الذي يأتي بعد ذلك، ذلك الشعور بالخواء، بأننا أمام نقيض المعنى بكل تمامه، بتلك الاستمرارية عديمة الرحمة للّحظات التي نعيش خلالها اللامعنى بكل قسوته.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي