ظفار.. ثورة الرياح الموسمية

2019-11-30

قاسم حداد*

 (بين جيل التجربة وجيل الذكريات)

1

تقرأ كتاب «ظفار، ثورة الرياح الموسمية» للباحث الفلسطيني عبد الرزاق التكريتي، الذي صدر بالإنكليزية عام 2013 عن منشورات جامعة أكسفورد، وصدرت ترجمته العربية لأحمد المعيني عن دار جداول. تضع الكتاب جانباً، وتفكر، (الأفضل أن تقول: تشعر)، رغم كونك أحد القريبين من هذه التجربة، وزعمك الاطلاع على تاريخها، إلا أنك تكتشف الآن أن هذا الكتاب يفضح جهلك العميق بتفاصيل التجربة، التي منحتك شرف المشاركة في نضالها. فالمعرفة الجديدة تجعل الحياة ممكنة.

مثل هذا الشعور هو ما يمنح الكتب أهميتها الحقيقية، حين تقرأ كتاباً على هذه الشاكلة، سوف تضيف إلى حياتك تجربة نوعية، تصقل فهمك (المزعوم) للحياة.

 2

أستاذ التاريخ في جامعة هيوستن في أمريكا الشاب الفلسطيني عبد الرزاق التكريتي، يلقننا درساً جوهرياً في تجربةٍ، قضينا وقتاً طويلاً نباهي بانتمائنا لها ومعرفتها، غير أن قراءة الكتاب تفضح كم أننا لا نكاد ندرك هذا الدرس وخطورته على مسار حياتنا في المنطقة العربية. والذين عرفوا الثورة في ظفار سوف يدركون، بهذا الكتاب، إننا بصدد أحد أكثر الدروس أهمية عن هذه التجربة. ليس فقط بسبب شمولية وعمق البحث الميداني، الذي تجشم المؤلف مصاعب التحقيق الوثائقي بشأنه، ولكن لأن دوافع الرغبة الذاتية في المعرفة، لدى الكاتب، كانت هي المحرك الجوهري لبناء المعلومة الجديدة لحدث يدخل التاريخ ويصنعه.

 3

من سياق الكتاب، بنظرته المنهجية، يتكشف لنا عمق الأسباب التاريخية/ السياسية التي دفعت القوى الإقليمية (النظامين الإيراني والأردني خصوصاً) مدعومة بالقوى العالمية، لمجابهة الثورة في ظفار، ومقاومتها والقضاء عليها. فتلك الثورة كانت تشكل الخطر الاستراتيجي، الذي كان يجعل عجلة التغيير تتحفز للانتقال لبقية المنطقة، في حال نجاح تلك الثورة. فليس من المتوقع أن يجازف النظام الشاهنشاهي في إيران بالسكوت عن تلك (الرياح) وهي تشير مهددة نهج حكمه بعنفوان خطواتها المتحفزة، (وظني أن النظام الحالي في إيران هو أيضاً سوف يتخذ الموقف نفسه من الثورة، في ضوء ما يفعله لشعبه ولشعوب المنطقة). والأمر نفسه ينطبق على الأنظمة العربية.

الآن، يمكن القول إنه لن يمكنهم السكوت على انتشار أفكار تلك التجربة، وإنهم لم يكونوا يدعمون السلطة الحاكمة في عمان حسب، بل كانوا يدافعون عن أنفسهم بالذات. فهل كان تفجير البؤر الثورية في «مسندم» و»الجبل الأخضر» من بين الإشارات التي جعلت القوى الإقليمية تتنبّه لما تمثله تلك الحركة من خطر تتوجب مجابهته؟

 4

من جانب آخر، يساعدنا هذا الكتاب على تفسير العنف الدموي الذي سيحدث في عدن في جمهورية اليمن الجنوبي، لأن تصاعد الحوار السجالي في أوساط الجبهة الشعبية في ظفار إلى سقف التصفيات الجسدية، قدمَ نموذجاً خطيراً لما سوف يجري لاحقاً ووشيكاً بين الرفاق في جنوب اليمن، فيما هم يعملون على حل خلافاتهم الفكرية والسياسية. لأن سياسة السلطة العمانية الجديدة، نجحت في تكريس أطروحاتها الإصلاحية، لمجابهة الجبهة (عملياً)، من أجل شق المشروع التغييري للثورة، حيث بدأ النزوع الفردي والجماعي للانشقاق عن مشروع الثورة، بدون أن يدفع ذلك الكوادر الثورية القيادية لمراجعة الواقع المتفاقم، والبحث عن حلول وبدائل.

ترى، لماذا لم تكن نواة الانشقاقات متوفرةً وكامنةً منذ بدايات العمل، مثلاً، منذ «جبهة تحرير ظفار»، حيث كانت النوايا تصدر وتصبّ في هدف مقاومة سلطة سعيد بن تيمور، وتغيير حكمه؟ الأمر الذي انطلق منه البريطانيون وهم يستبدلون الأب بالابن؟ لأننا سنلاحظ أن الأفراد الذين بادروا بالانشقاق، غالباً، كانوا هم ممن جاءوا في «جبهة تحرير ظفار» عند التأسيس الجبهوي. وربما جاء البريطانيون بقابوس لهدفٍ أول هو مجابهة الثورة في ظفار، والباقي الوطني العُماني استحدثه وطوره حكم قابوس، بدون أن يتبلور مشروعٌ سياسيٌ في جانب الثورة؟

بل إن ذلك أدى ببعض قادة الثورة الى الخوض في درجة الصفر من العنف الدموي، في سبيل تفادي ذلك الانشقاق، ما أدى إلى الخراب الروحي للعديد من القيادات في تلك المنعطفات الحاسمة، وفي رعيل كبير من الكوادر في المراتب المختلفة. فليس سهلاً تفهّم ذلك السلوك الديكتاتوري العنيف، الذي لجأت إليه قيادات الجبهة الشعبية. وليس سهلاً قبول معالجة الفشل السياسي بخطأ إنساني على تلك الشاكلة، خصوصاً عندما نرقب المصائر التي انتهت وتنتهي إليها تلك القيادات. لقد كانت التجربة تقترح أمام الثورة الخيارات الأخرى التي من شأنها ربما أن تمنح العمر الأطول لها، ونخشى أن الكفاح المسلح الذي كان هو سر البداية الفاتن، صار، في ما بعد، هو سر النهايات الغامض.

 5

لقد كانت النظرية تحكم الواقع، في حين ينبغي أن يكون الواقع هو الدليل الموضوعي لمجريات الأمور. لقد كانت الارض تنهار تحت أقدامنا. أذكر في عام 1971، كان صديق الثورة المفكر البريطاني اليساري ألفرد هوليداي، يزور الكويت مشاركاً في “ندوة فلسطين” التي نظمها “اتحاد طلبة الكويت” آنذاك، وقد أحبَ هوليداي زيارة البحرين بشكل شخصي، فالتقيت به، وكان قد عاد تواً من المناطق المحررة في ظفار، وهو العضو الفعال في لجنة مناصرة الثورة في الخليج، الذي كان قد زار مناطق الثورة في ظفار، برفقة المفكر اللبناني فواز طرابلسي. وأثناء حديثنا عن تجربته في ظفار، سألته عن وضع الثورة، فأجابني: باختصار (لا أمل هناك). كان يحكي عن الأخطاء الأيديولوجية والممارسة التي تتخبط فيها الثورة، هوليداي بحكم موقعه كصديق حميم للتجربة، كان يرى فيها، مثل كثيرين غيره، مستقبلاً حاضراً مبشّراً بالتغيير الجذري.

تُرى، ما المعنى المعرفي للوعي السياسي، وكيف نقدّر ذلك الوعي ووجوده، وتبلوره الحيوي، بين الكوادر القيادية في الجبهة، وما التوصيف العلمي للقيادة الفكرية في لحظات الجمر؟  تلك أسئلة جوهرية نحتاجها لفرز الدرس في الخبرة. هل كان الرفاق يعالجون قسوة الجغرافيا (ثمة أكثر من ألف كيلومتر بين ظفار ومسقط، لدرجة أن ظفار كانت أقرب إلى جنوب اليمن من العاصمة العمانية)، بافتعال التاريخ. فلماذا، مثلاً، كانت القفزة الجيفارية في عمان الداخل محفوفةً بكل تلك المخاطر التي ذهبنا إليها بما يشبه (سرنمة) المأخوذ؟

 6

عبد الرزاق التكريتي، كان يسعى، في تأليف كتابه، إلى اكتشاف الخلل الذي أدى إلى الإخفاق التاريخي لثورة تاريخية. وظني أن كتابه هذا من شأنه منحنا المراجعة النوعية، ومعرفة تجربة لا تزال، عند أصحابها خصوصاً، بعيدة عن التأمل بوصفها الدرس الكبير في سياق تاريخنا العربي الحديث. فمن الظلم والخسارة تفادي وضع تلك التجربة تحت ضوء المراجعة العميقة الصارمة. كما من الغبن أيضاً للأجيال الجديدة من المناضلين والناشطين الساعين نحو مستقبل التغيير السياسي، ألا تعرف الدروس الفادحة التي تكبدها جيل الثورة في عمان والخليج العربي. ثمة حاجة ملحة لتجسير الفجوة المعرفية (بشكل نقدي) بين جيل التجربة وجيل الذكريات، من أجل وضع التجربة في مكانها، بوصفها صنيعاً تاريخياً، فالمنعطفات التاريخية وإن كانت فادحة التضحيات، من شأنها أن تجعل الرؤى أكثر وضوحاً ومسؤولية.

الآن، بعد التداولات المختلفة لمفهوم الثورة، في السنوات الأخيرة، بعد (الربيع العربي) وتوابعه، ألا نحتاج لمناقشة مفاهيم الثورة المختلفة؟ لماذا لا تكون تجربة هذه الثورة واحدة من مناظيرنا العلمية الجديدة، لفهم ما يحدث بفهم ما حدث؟

7

لقد كانت تجربتي مع هذا الكتاب بالغة التأثير، ليس معرفياً حسب، ولكن خصوصاً روحياً. لقد تسنى لي مع هذ الكتاب اكتشاف المعنى التاريخي لوضع الإنسان في مهب الأخطار الكونية، في سبيل إعادة تركيب واقعه الاجتماعي والسياسي، بدون التوقف أمام الخسارات الصغيرة التي كان الجميع من جيلي يتعرض لها. كان جيلي يرى إلى الأحلام وشيكة التحقق، لفرط الظلم الباهظ الذي يقع علينا. ظلم لا يزال يقع على الكواهل.

 8

الآن، بعد أن يفرغ الشخص من الكتاب، ويضعه جانباً، ويبدأ تأمل المشهد السياسي والاجتماعي في هذه المنطقة، وعلى الرغم من كثرة الملاحظات على تجربة الجبهة الشعبية في شكل نضالها في المنطقة، نظراً وممارسة، وعلى الرغم من التحفظ الأيديولوجي على تلك المرحلة من النضال، ثمة سؤال يتماثل بين أيدينا يصعب تفاديه: هل ثمة مراجعة نقدية صارمة يمكن التعويل عليها من أجل وضع الثورة في مقدمة المستقبل؟ كان فواز طرابلسي في حوار معه، يقول: (لم يكن في الإمكان الكلام إلا بعد انتهاء الثورة)، فهل صار بالإمكان الكلام حقاً الآن. ومن الذي يملك حق الكلام فعلاً.

9

كتاب عبد الرزاق التكريتي، يساعدنا على استيعاب صدمة اكتشاف الأحلام الوهمية التي كانت تتحكم في مشروعنا، وعمق الحقيقة المجردة التي تشبثنا بها في ظروف غير مؤاتية. ففي الكتاب قدرٌ واضح من الجرأة على طرح أسئلة الواقع على أحلامنا. كما لو أن الثورة كانت تضع المستحيل قنديلاً لمشروعها. وظني أنه منذ اللحظة التي وَجدت الثورة نفسَها في مهب أقدار الدول الكبرى، فقدتْ طبيعتها الواقعية، وفي هذا ضربٌ من العمل السياسي الذي لا يستقيم مع طبيعة العمل الثوري.

 10

الآن، بعد ما يناهز نصف قرن على تلك النهايات المأساوية، يمكننا القول بأن خللاً فادحاً في الممارسة، تجعل تلك الاستراتيجية الصائبة بالغة الاستحالة. ومن دون التقليل من بسالة التضحيات العظيمة التي قدمتها الثورة، لن يكون بمقدورنا التعرف على آفاق عملنا النضالي من غير التسلح بتجاربنا السالفة، بل إن نقدنا الرصين لما فعلنا يضيء لنا ما نذهب إلى صنيعه الآن، ولاحقاً. ولعل الذي يفسّر لنا الحماس الهذياني الذي اندفعتْ به الأنظمة الملكية في سبعينيات القرن الماضي، للقضاء على مشروع الثورة، يجعل الأمر أكثر وضوحاً. فمشاريع الإصلاح التي تهرول بها الأنظمة العربية متسابقة مع شعوبها بشكل متسارع، هي مشاريع ليست فوق مستوى الشبهة، وربما جاء إليها الباطل من بين يديها ومن خلفها.

غير أنني، سأعتبر هذا الكتاب بداية متأخرة من أجل مناقشة نقدية لتجربة الثورة، متمنياً على كل من يعنيه الأمر الثقة بالأسئلة بوصفها سلاحه الجديد.

 

  • شاعر بحريني

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي