الفيلم البرازيلي «باكورو»… مقاومة الأهالي الأصليين لمحاولة محو قريتهم

2019-10-15

سليم البيك

قد يكون هذا هو الوقت الأنسب (هي كذلك مصادفة مؤلمة) لعرض هذا الفيلم، بعد حرائق غابات الأمازون ومحو مناطق شاسعة من الغابات، حيث بيوت حيوانات برية، وكذلك قرى لأهالي محليين. وقد قرأنا الكثير، قبل ذلك وخلاله وبعده، عن إمكانية تدبير الرئيس البرازيلي اليميني لذلك، لمصلحة شركات رأسمالية، عن عمليات إبادة تمر بصمت تقوم بها شركات عابرة للقارات (شوكولا نوتيلا مثلاً) في إبادة نوع من الأشجار لاستخراج زيوت، هي أشجار يعيش عليها نوع من القرود في غابات الأمازون، يتعرض، لذلك، للانقراض.
في صلب كل ذلك، هنالك الكثير مما يمكن ذكره هنا، في هذا الموضوع، الكثير مما قدمه هذا الفيلم بشكل فني عالٍ، بقصة تذكرنا بالواقعية السحرية وعوالم غابرييل غارسيا ماركيز، حيث تموت، في بداية الفيلم، مسنة، في قرية نائية وسط البرازيل، ويتم تشييعها بشكل يجمع بين الهيبة والغرائبية، يكتشف أحدهم بعدها، صدفةً، امحاء قريتهم، باكورو (اسم لأحد أنواع الصقور)، عن الـ»غوغل مابز»، تبدأ حوادث متفرقة وصغيرة ما يجعل تجمّعها، بهذا الشكل، لافتة للنظر. نعرف لاحقاً أن هنالك محاولات لمحو القرية من الوجود، من خلال محاولات قتل فعلي لأهلها.

الفيلم الذي أخرجه البرازيليان كليبير فيلهو وجوليانو دورنيلز عُرض موخراً في السينماتيك الفرنسية في باريس بحضورهما، وبدأ عروضه التجارية في فرنسا قبل أيام، شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الأخير ونال باستحقاق جائزة لجنة التحكيم.
هو فيلم مقاوَمة بالدرجة الأولى، عن احتلال أجنبي لقرية ينظم أهلها أنفسهم للدفاع عنها، بمقاومة مسلحة، بأسلحة من المتحف المحلي الصغير للقرية، ولهذه رمزية عالية تعود إلى أصلانية المكان والإنسان هناك.

لهذه المقاومة شكلٌ فني عالٍ، أتى بعنصر إضافي على الواقعية السحرية اللاتينية هو الويسترن الغربي، في الجغرافيا وطرائق المواجهة وأنواع الأسلحة واستخداماتها، إنما المختلف عن الويسترن الأمريكي هنا، هو البطولة الجماعية، بخلاف البطولات الفردية في ويسترن القارة الأمريكية الشمالية، في الجنوبية هنا بطولات جماعية لأهالي قرية، يدافعون بالدم والسكين والبندقية عن قريتهم، التي تسعى أطراف أجنبية إلى محوها، لكن ما هي هذه الأطراف؟

في بداية الفيلم نشاهد «بورجوازياً» سميناً ببشرة بيضاء وشعر ناعم مسرح، هو من أهالي القرية المقيمين، كما يبدو، في مدينة بعيدة، يأتي مع مرافقين وسيارات دفع رباعية، ولوحات إعلانية هي شاشات معلقة على السيارات ومكبرات صوت، ليقدم وعوداً إلى الأهالي، حيث المياه مثلاً ملوثة والأمراض منتشرة، وعوداً لهم كي يصوتوا له في الانتخابات. يرفضون استقباله، يختفي فندخل في حكاية الفيلم، لكنه يعود أخيراً لندرك أنه متواطئ مع القتلة لمحو القرية.

هنالك إذن السلطة المحلية ورجالها وحاشيتها، يتعاونون مع غازٍ أجنبي، ففرقة القتل هم أمريكيون بيض، بعيون ملونة، يسعون إلى قطع كل علاقات القرية واتصالاتها بما حولها، ثم الهجوم عليها لارتكاب مجزرة بحق أهلها الذين يدركون الأمر من خلال حدس الأهالي المحليين، فيتنظمون للمقاومة التي ستدهش الغازين.


الأطراف الساعية للإبادة هي إذن صاحب المصالح، ابن القرية «المتمدن»، رجل السلطة في القرية، ومعه الغازي الأجنبي حامل السلاح وقد مهد له حامل اللوحات الإعلانية، المنفذ المباشر لإبادة المكان والإنسان.

بسينماتوغرافيا لافتة، ألوان وأزياء أصيلة وتصوير نهاري وليلي واقعي، وأداء طبيعي، أتى الفيلم (Bacurau) صاحب المضمون القوي والقاسي، القوي برسالته الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، والقاسي بالحقيقة التي يظهرها والتي نعيشها على هذا الكوكب، وإن بسياقات مختلفة (ألا تشبه حكاية هؤلاء الأهالي وقريتهم، حكايات الفلسطينيين والسوريين؟) عشناها على امتداد الكوكب.
ليس من الضروري أن تكون الرسالة الواضحة والمباشرة في أي فيلم نقطة سلبية عليه، وإن كانت كذلك غالباً، فهذا يعتمد على السياقات والشكل والمضمون، وفيلمنا هذا مثال جيد على ذلك. إذ كانت رسالته مباشرة جداً، محتلون واضحون، بملامح واضحة، ولكنة أمريكية، بجهل واضح لقائدهم بلغة الأهالي (مثلاً) إذ يقول «برازيلية» وليس «برتغالية»، هي سطحية وجهل يذكران بدونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، الشخصية العدوة الأولى للبيئة والكوكب والسكان الأصليين عليه.

هنالك محتلون واضحون وهنالك أصحاب حق واضحون كذلك، إذ لم يكن بناء الشخصيات مركباً، يوجد فصل واضح بين الخير والشرير، فصل يأتي رتيباً غالباً، إذ تكون الشخصيات مملة إن كانت بذلك الوضوح، لكن القضية التي نقلها الفيلم هنا خففت من وطأة تلك الرتابة (الحاضرة نوعاً ما) ووظفت الشخصيات لظروف مواجهة ومعركة وجودية مع الساعين لمحو القرية، بالمعنى المجازي وكذلك الحرفي للكلمة.
أضيف إلى ذلك الواقعية السحرية اللاتينية، التي كانت بنسب ضئيلة فلا يغلب السحري فيها على الواقعي، فما نشاهده في الفيلم نعيشه ونشاهده ونقرأ عنه في واقعنا اليومي.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي