"شطحاتٌ لمنتصف النهار": كتابة المحو وما تقوله وتنقاد إليه

الامة برس
2019-09-19

لا يمكن أن نفصل العمل الشعريّ لمحمد بنيس عن تصوُّره النظري والمعرفي لهذا العمل، وعن كتابته السيرذاتية عبره. يستحضر الشاعر المغربي، في عمله شبه السيرذاتي «كتابة المحو» (1996)، شذراتٍ من «حالة كتابية شخصية لا تتنكّر لمآزقها، في زمن بدون جدران، تتشظّى فيه القصيدة والحداثة»، بقدر ما يتبادل والكتابةِ المصاحبةَ في أفقٍ نظريٍّ يقترب عبره منها، ويضيء نصوصها الغائبة وعتمات ما فتئت تُلازِمها، وما يفضي إليه كلُّ ذلك من انشغالٍ بقضايا رئيسة تأبّدت في ثنائيات مثل: المغرب والمشرق، المركز والمحيط، القديم والحديث، الذات والآخر. غير أنّ العمل يجد امتداده السيرذاتي والثقافي في عمل آخر صدر في العام نفسه، بعنوان: «شطحات لمنتصف النهار».

 

بحث الذات ومسكنها الحرّ

 

يستعيد محمد بنيس شذراتٍ من سيرة طفولته الأولى ومراهقته في فاس وفضائها المعماري الخاص، وسنوات الجامعة بظهر المهراز، شاعرا بالموت والغياب من فقدان الأمّ/ السيدة وهي مُسجّاة على فراشها محمولة في صندوق طويل مطلي بالزعفران، قبل أن يتلبّس هذا الشعور بالشِّعر الذي صاحب رحلة الجسد عبر «عذابات المعنى» التي أخذ يسلكها وينجذب إليها بين دروب المدينة ومتنزّهاتها، إلى خارجها (الرباط، المحمدية، الدار البيضاء، طنجة، بيروت، باريس، مدريد) حيث المشروع لا يكبر إلا بالقلق والمعاناة ومقاومة أهوال الطريق، وبالبحث عن حُرّية مفتقدة: «شبابي في فاس صباحاته وأمسياته. كان ذلك واضحا تماما. جسدي ينضبط لتحوُّلات النهار والليل. بين درجات الضوء والعتمة تتبدّل أمكنة إقامة جسدي. كما لو أنّ تلك الدرجات سرُّ أحوالي».

هذا البحث منذ البداية لم يكن سالكا من خلال التوتُّر بين حرية الأنا والسلطة التي تحاول أن ترغمه على قيم الواحديّة والتنميط داخل تبعيّة الثقافي للسياسي، أو بسبب غياب «الحياة الشعرية» في فاس، ثُمّ في «عبور اللغات» من عربية الدارجة المغربية إلى عربية القرآن، ومن العربية الحديثة إلى الفرنسية، وكأنّه منفيٌّ في «حُبْسة» لم يخترها. بيد أن وضعية الذات، ذات الكتابة، بدأت تتحدّد بين حرّيتها والالتزام بقضايا المجتمع والإنسان بالنظر إلى طبيعة السياق التاريخي الذي كان يجتازه البلد، وإلى «إبستيم» العصر ومرجعياته السياسية والثقافية الكبرى (الماركسية، الوجودية، الثورة الثقافية الصينية، اللسانيات البنيوية). لهذا، لم يكن يتوانى الشاعر عن السؤال؛ وهو يسائل الأنا واللغة والهوية، التي صارت تتشكّل بين عينيه من جماع علائمها المادية والرمزية (الملحون، الزلّيج، والجبس، الخط المغربي، الأضرحة، الدارجة، الشلحة، الحرف اليدوية التقليدية، القرويين، العمارة الفاسية، مناديل نساء فاس)، أو يسائل المغرب كمكان ثقافي وشعري، ويسائل عوائق تجديد الثقافة المغربية وموقفها في الثقافة العربية الحديثة، ويسائل أدوار الأدباء والمثقفين وسجالاتهم من أجل تحديث أطر المجتمع والثقافة والأدب.

وقد استتبع كل ذلك، سؤالٌ حادّ مثل هذا الذي يطرحه: «ما معنى أن تكتب الشعر بالعربية في المغرب؟» أو بصيغة أخرى «ما معنى أن تكون شاعرا في مجتمع مغربي كافح من أجل الاستقلال والحرية؟». حدّية السؤال تكمن أساسا في وضعية الشعر المغربي اللامُفكّر فيه، عدا سلطة المنع التي يتعرض لها هذا الشعر بسبب هيمنة السياسي على الثقافي، ثُمّ بسبب قوانين المركز الشعري، التي كانت تُفرض من الخارج. وفي هذا السياق، يستعيد محمد بنيس كيف كان يترقّب وصول مجلتي «الآداب» و«شعر» من بيروت، بقدر ما كان يُعبّر عن سخطه مما كانت تعيشه القصيدة ليس في المغرب، بل في المغرب العربي بأسره، من وضع تقليدي حتى السبعينيات جعل من استراتيجية الكتابة عنده ذات وجهين أساسيين؛ نقد مفاهيم النسق التقليدي، وتشييد خطاب مغاير نابع من منجز الحداثة الشعرية في الشرق والغرب.

 

يعترف الشاعر الذي ينتمي إلى جيل السبعينيات في الشعر المغربي، وهو ـ على حدّ تعبيره- «جيل ثقافي رافض»، بأنّ الصدفة هي التي قادته إلى الشعر، وسط مجتمع لا شعراء فيه، ولم ينشغل الناس فيه إلا بشؤون المال وغنائم ما بعد الاستقلال، وهذا ما جعله يقضي سنوات في السؤال عن القصيدة والبحث عنها ممن يُسمّيهم «الأسلاف» بتعدُّد اللغات والحضارات والأزمنة، سواء تحت تأثير ممارسات الشعر القديم (امرؤ القيس، المتنبي، المعري، ابن عربي)، أو الحديث والمعاصر التي أمضاها كلٌّ من جبران والشابي وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور ثُمّ أدونيس، أو ممارسات أخرى لتجارب كتابية معزولة عبر البحر الأبيض المتوسط.

 

إيقاع الذات الكاتبة

 

من هنا، لم تكفُّ ذات الكتابة خلال سنوات التكوين (1965- 1968) عن التعلُّم والإصغاء والانجذاب للمدهش والمختلف، كما «لم تتوقّف عن حفر أثرها على جسد موشوم بزمنيّته، في ما هو مُعبّأٌ بسُلالات دمٍ في نصوص لانهائية ما تزال متكلّمة من خلل إيقاعاتها». وفيما كانت الذات تريد التحرُّر بكتابتها والعثور على تسمية خاصّة بها، فقد كانت مثل هذه الكتابة تتسمّى بقرينة «المحو» سَعْيا إلى جَسْدنة إيقاعها الشخصي والاستقلال بفعلها الإبداعي الخاصّ، ابتداء من فاعليّة الجسد عندما يصير علّة وجود ومصدرا إنشائيّا يفتح بَشَرة الكتابة على مختبر الصور والاستعارات المحلوم بها: «جسد خفيف يطوف بالكلمات ليطوف بالليل والنهار. عرقٌ واليدان. تحتدُّ الأنفاس مع احتداد وقع الأقدام..»؛ ومن ثمّة، فالذات المنفعلة والكاتبة عبر هذا السفر الرمزي راحت تُوسع مجال تنفُّسها وحركتها وصيرورتها في العالم، وتربطها صداقاتٌ وعلاقات خاصة مع الناس والأشياء والطبيعة

لا يخضع إيقاع الذات الكاتبة، والحال، لنموذجٍ قبليٍّ وخضوعٍ خارجيّ، بل يحفر أثره الخاصّ الذي تمتحنه تجربة الفراغ، حينما تواجه الذات حُبْسة ما تعدّدت تعبيراتها في اللغة وبها؛ فالتخلّي عن علامات الترقيم وأدوات الربط والاحتفاء بالبياض ومشهديّة الصفحة في تعدّدها وتَمفْصُلها الطباعي، يجعل من إيقاع النص داخل انبثاقاته واقتراحاته المفاجئة يفجر نسق اللغة من الداخل، ويبني بانخراط الجسد في المكتوب/ الخطّي/ المكاني إبدالا جديدا يدمج الرؤية في السمع، وبالتالي يضمُّ التفضية في سيرورة الكتابة إلى مادّية الدال الذي يتعدّى شكله الكاليغرافي (الكتابة بالخطّ المغربي) إلى شكل آخر ينقاد للحسّي والشهواني، على نحو ما يشبه فعل مجاهدة ويؤزّم القَبْليَّ من البيت، والمعنى، والصورة والبناء في آن: «لا تخجَلْ من الكلماتِ التي تتآخى معها في السريرة ولا أَحَدَ غيرك يستعملها. اِتْبَعْ أَنْفاسَكَ حتى ولو كانت تتعارض مع علامات الترقيم، تراكيبُ تمهرُها بإمضاء يدك الثالثة. مكانُ الصفحة ينادي على تعدُّدِ النصّ والخطّ والفراغ. وهذا المثلّثُ الذي فاجأكَ تأمّلْهُ ثم انْفُثْ فيه من هذيانِكَ حتى يلتئم اللّاتوازن».

كلُّ نصٍّ عبر ممارسة الكتابة هو تجربةٌ في اللغة وبها، مثلما هو تحقيقٌ للبحث اللانهائيّ الذي يدمج الذات الكاتبة في حالات الصيرورة، وهو التجلّي الشعري لما يُسمّيه «اليد الثالثة» التي تعلي من قيمة الفراغ بدل ميتافيزيقا الامتلاء، ومن معنى الإيجاد بدل الاكتفاء بالموجودات المبتذلة. لا تكتب الكتابة عن الشيء، بل تنكتب معه. وهي ليست صورته، بل أثره الذي يطيح بالحدود بين الداخل والخارج، بين الأدب والفكر، بين الشعر والنثر، بين السواد والبياض، فيما هي «كتابةٌ يتيمة» تمحو أسطورة الأصل؛ أي كلّ ما يمكن أن تؤول به إلى نهاية محدّدة ومعلومة، وتنصت للغياب الذي يدهم الجسد، ولا تكون في هذا المعنى إلا هذيانا ينكتب بالإيقاع الشخصي. ويمكن أن يتأوّل مثل هذا المسعى داخل ما يمكن تسميته بـ»البعد الأنطولوجي الثالث للجسد».

إنّ الشاعر وهو يضع الجسد في قلب العمل الشعري، يترك انبثاقاته تشعُّ في غفلة عن الذات حتى عندما تكون الذات مادّة الكتابة (مذكّرات، نصوص ذات طابع شخصي أو سيرذاتي)؛ الجسد الواقعيّ، الحيّ، الراقص، والمتلفّظ الذي يقدم على الصفحة بالشطح والزوغان، ويواصل استكشاف كلامه مُدْمجا الحواسّ جنبا إلى جنب الفعل الكتابي، بما أنّ هذه الحواس هي الأعضاء التي يحسّ بها الجسد نفسه وغيره معا، وبما أنّ كلام الجسد نفسه هو مغامرة اكتشاف وبحث أكثر من كونه «موضوعا في حُقّ من أحْقاق البلاغة»: الكلمات قبل الفكرة، والجسد قبل المفهوم، والخيال قبل الحقيقة، والمجهول قبل المعلوم، والحياة قبل الموت. يربط محمد بنيس ممارسته الكتابية بتاريخها وتأريخها للذات الكاتبة وزمنيّتها، وينطلق في تصوُّره للكتابة من فعل المحو الذي يخترقها بقدر ما يقطع مع ثنائية الدليل وتقسيماته التقليدية، متجاوبا مع بحث الذات عن مسكنٍ حُرٍّ لها في العالم، أو ما يدعو بـ(المكان الوثني)؛ وهو بحثٌ يُقيم عبوره على «حدود الخطر» التي يختزلها في حدّيّن رئيسين:

أ- أزمة البيت التي يفسرها من خلال وضعية بناء البيت الجديدة الذي تنسف الحدود بين الشعري وغير الشعري، وتتيح لإيقاع الذات الكاتبة أن تتعرف على مغامرة الدلالية التي تشتغل في الحبسة والهذيان بقدر اشتغالها خارج المرجعيّة وثبات المعنى.

ب- بياض الصفحة، صفحة الشعر اللانهائية التي تضاعفت، نتيجة الحبسة والهذيان، من جماليّة الانشقاق والنقصان.

هذان الحدّان المتعاضدان هو ما يمنح كتابة الجسد فاعليّتها التي تجعل من «إبدال بناء البيت الشعري» ضرورة وجودية بها يتحقّق معنى «الإنصات لحبسة التركيب والنحو» عبر الصفحة المتعدّدة التي لا تنتهي، من قصيدة إلى قصيدة، بوشمها، وأثرها ودمها الشخصيّ. تأخذ القصيدة، هنا، صفة الكتابة التي تتوالد داخل الشكل وتكتمل حركاتها، بشكل غير قابل للفصل، في البناء وإعادة البناء مما «يُجَسْدِن» تفضيتها ومادّيتها في آن.

 

إعادة تشكيل الـ"بقايا"

 

عبر هذا التصوُّر الذي يلازم ممارساته النصّية؛ منذ «في اتجاه صوتك العمودي» مرورا بـ«بيان الكتابة» المؤسِّس، يثبت الشاعر وجها لوجه مع خطاب النهايات المنتصر، والمقدس، والأصل، وميدان السُّلَط والكليشيهات العاطلة، ويعتقد بأنَّ هذه الممارسات، الشعرية وغير الشعرية، وعبر الذهاب – الإياب بين النظرية والممارسة، لا توضع ضمن تيار الحداثة السائد، فيما هو يبدي عدمَ رضاه عن النقاد في تعاطيهم معها وهُمْ يبحثون عن المعنى، وعن أصل الصورة والقصيدة الممتلئة بالكلام، داخل ما يسميه «تقليديّة مُعمَّمة» و«انتصار المعلوم والجافّ في الشعر العربي»؛ ذلك ما يقوده إلى توسيع الرؤية: فبعد أن يؤكد على أن شعر الحداثة العربية يتجلّى في «صيغة مختبر»، يجد أنّ القصيدة العربية الحديثة تعيش أزمة نموذج شعري، وهو نموذج الحداثة بتعارضاتها المختلفة والبعيدة»، فيقترح الرؤية إلى الشعر العربي ضمن مُحدّداته في العالم، ومآل الأنواع الأدبية، ودائرة الثقافة العربية. لم يفتأ محمد بنيس، عبر تاريخ كتابته وتجربتها النصّية، يقدم تأمُّلاته النظرية التي يستعيد بها شرط هذه الكتابة، فيما هو يفتحها على زوغان الإبدال واللانهائي، ضمن ما يدعوه بـ«المحو»، سواء في علاقته بجسد الشاعر، أو بممارساته النصّية نفسها. إن هذا المحو نفسه هو ما نعثر عليه يشتغل في سيرة «الشطحات»؛ فالشاعر لا يستعيد ما مضى من حياته الشخصية، بل بالأحرى يكتبها ثانية، وبالتالي يعيد تشكيل هويّة ذات الكتابة من خلال الـ«بقايا» التي ما زالت تعتمل في الدخائل؛ بقايا الأشياء والأحلام والعناصر، أو من خلال المجهول الذي يناديه ويتهيّأ له من أمكنة بعيدة: «ستٌّ وأربعون سنة. ستّةٌ وأربعون نصّا. لم أرصُدْ لكل سنةٍ من حياتي نصّا. ولكنّي. ربّما. سعيتُ لاختراع حياةٍ أخرى».

يزداد إلحاح «اختراع» الهويّة بالنظر إلى المآزق التي انتهى إليها زمن الذات الكاتبة، وخيباتها ومشاريعها المحبطة إِنْ ذاتيّا أو جمعيّا، منذ زمن السبعينيات، وكأنّ هذا الاختراع ـ في نظره – هو بمثابة «مَطْهَر سراديبيّ». فالشاعر باعتباره أنا السيرة ومتلفّظها الأصلي يستعيد تاريخه الشخصي، فيما هو يدرك أن الهويّةَ كموضوع مفقود ينبغي إعادة استكشافه خارج أطر الميثاق المرجعي، فتسعى كتابته السيرذاتية إلى تشييد حياة جديدة بـ«لغة لها من بقايا الأشياء بقدر ما لها من متعة أساطير بها انساقَتْ ذاتي إلى مجهولها»، و«إقامة نسب شعري يمحي علاماته التاريخية» ولا سلطان فيه للأسلاف؛ وهذا ما أرخى على هذه اللغة جماليّات «المحكيّ الشعري» الذي يتجاوز ما هو خطّي وثبوتيّ، لأنّه لا معنى لهذا الابتكار وقيمته الأنطولوجية في غياب حساسيّة معارضة تقترحها سلطة المحو والفراغ، وترفع الذات وتجربتها الفرديّة وما تتطّلبه من رهانٍ على بحث الحرية بلا مهادناتٍ، إلى مقام العزلة على حوافّ المجهول بين كتابةٍ زائلة لا عزاء إلا في ما تومض به وتذهب إليه، وبين حُبْسة لم تخترها أصلا.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي