ملفات الموساد ما زالت مفتوحة

إيلي كوهين بصبغة وطنية وضحالة فنية

2019-09-14

لندن - محمد رُضـا


على مدى ست حلقات من مسلسل «الجاسوس» (ذا سباي)، وفّرت «نتفليكس» لمتابعيها وجهة النظر الإسرائيلية فيما يتعلق بقضية الجاسوس إيلي كوهين وكيفية تسلله للداخل السوري ومخالطته بعض أهم رجال الدولة في الستينات قبل افتضاح أمره وإلقاء القبض عليه وإعدامه.

المسلسل من إنتاج شركة فرنسية (لوجاند) واشترته الشركة الأميركية نتفليكس ومن كتابة وإخراج جيديون راف الذي سبق له وأن حقق سابقاً (ولصالح محطة «شوتايم» الأميركية) مسلسلاً جاسوسياً مشابهاً بعنوان «هوملاند» حول إرهابي من «القاعدة» يسعى للقيام بعملية في الولايات المتحدة لكنه يثير ريبة أحد رجال المخابرات.

المفاد في «هوملاند» كان مختلفاً. هناك التحذير من أي جسم عربي لأن العربي غالباً ما يتلازم وكره أميركا والسعي لقتل مدنييها. هنا، في «الجاسوس» الحكاية وطنية الشأن بالطبع حول موظف عادي تم اختياره لمهمة بدت، سنة 1961. مستحيلة. تم تدريبه وإرساله إلى بوينس آيرس وإدخاله وسط الجالية العربية هناك قبل أن يتم زرعه في وسط النخبة السياسية والعسكرية في سوريا ذلك الحين.

- ثبات وثقة

وطنية «الجاسوس» ليست مدعاة غرابة. العمل بأسره إنتاج إسرائيلي المصدر وضعه مؤمنون ببقاء إسرائيل استيحاء من أحداث حقيقية مثبّتة في أرشيفات سوريا وإسرائيل معاً بصرف النظر عن التلوين الدرامي الذي تدخل لتحويل الأحداث لسلسلة من المخاطر ومحافل الترقب لضمان جذب المشاهدين.

على نحو تلقائي، إذن، ليس غريباً أن يصدح المسلسل بنجاح المخابرات الإسرائيلية في اختراق دفاعات النظام السوري آنذاك فهو مسلسل إسرائيلي في نهاية الأمر من بين أدواره تجميل شخصية الجاسوس كوهين فيقدمه رجلاً متزوّجاً ممن يحب ومنتظم العمل ومخلصاً في حياته. اختياره للمهمة تم بترشيح الضابط المسؤول عن التجنيد دان (نواه إميريتش) لهذه العناصر مجتمعة وفوقها إنه خدم إسرائيل مجنّداً ومستعد لخدمتها مجدداً.

يسأله رئيس في الموساد إذا كان مستعداً للتضحية من أجل إسرائيل بما ينضوي عليه ذلك من هجران زوجته وكتم سره والسفر بعيداً عن وطنه. يجيب كوهين إنه مستعد ويدخل سلسلة من التدريبات تخوّله الانتقال إلى المراحل الأخرى بثبات وثقة.

هذا الثبات وتلك الثقة جعلت عدداً من النقاد الأميركيين يرون أن أداء البريطاني ساشا بارون كوهين للدور مثل «طنجرة ووجدت غطاءها»، وهو بالفعل يطرح أداءً مختلفاً عن شخصيته الكاريكاتيرية في برامجه وأفلامه. على بعض النقيض من معظمها، خصوصاً في «الديكتاتور» (الذي لعب فيه شخصية تذكر بالراحل معمر القذافي) و«بورات» (الذي سخر عبره من تقاليد اجتماعية أميركية). لكنه نقيض مستخدم كوضع منفصل، فالدور هنا لا يتطلب منه جنون أداءات سابقة بل لعب الشخصية المحورية المسندة إليه. فنياً، النجاح محدود جداً لكن كعملية أداء لشخصية لا نعرف تماماً كيف كانت تصرفاتها ومسالكها وعاداتها البشرية، فإن ساشا كوهين يوفر المطلوب.

عندما تتبدل شخصية الجاسوس مستفيداً من إتقانه العربية ومن الأبحاث والوثائق التي زُود بها بما في ذلك مكان قبر أبيه في سوريا. موهماً الجميع بأنه كامل أمين ثابت وإنه متيم بحب وطنه السوري الذي عاد إليه بعد سنوات الغربة، يرتفع النبض أعلى مما بدأ. بطبيعة الحال سيميل المسلسل إلى تشغيل ما يستطيع من إشارات الخطر، فغطاء إيلي- كامل قد يُنسف في أي وقت لأن السُلطة السورية قد تُخدع به لبعض الوقت لكن ليس كل الوقت كما حدث بالفعل عندما كُشف أمره.

ما قبل ذلك، هناك العديد من المواقف المُساقة لإثارة ذلك النوع من التقليد السائد. لا بد من رسم حياته الزوجية نشطة عاطفياً وجسدياً ولا بد من موقف تعكس فيه زوجته (هادار راتزون روتم) غيرتها على زوجها بعدما اكتشفت أنه استقال من عمله من دون إخبارها بذلك. عملية تدريبه تتعرض لمونتاج غير موفق يختزل الوقت ويتضمن مواقف تفضي لنتائجها المتوقعة.

بداية المسلسل «كولاج» من المشاهد المتعددة لشخصيات سياسية مثل جون ف. كندي ومحمد علي وفيدل كاسترو ونيكيتا خروشيف وشارل دي غول ونيلسون مانديلا وحتى ألفريد هيتشكوك وإلفيس برسلي. هذه البداية تشبه بداية مسلسل جيدون راف السابق «هوملاند» كثيراً. لكن ما يُلاحظ عليه هذا المسلسل على صعيد التصميم هو أن لديه ميزانية محدودة لخلق أجواء الستينات في كل من تل أبيب ودمشق و- إلى حد - بوينس آيرس ويستخدم ذلك في شكل صحيح مبتعداً عن لقطات ومشاهد لتأكيد الأمكنة والأزمنة لأن ذلك ليس في وسعه.

بعض التصاميم هنا غير موقفة. نلاحظ مثلاً أن طرابيش السوريين أكبر مما كان يرتديها الناس، كذلك تلك الطرابيش كانت أكثر انتشاراً في دمشق خلال الأربعينات والخمسينات مما أصبحت عليه في الستينات.

- مبررات غائبة

هذا جانباً، لا بد من الإشارة كذلك إلى أن نتفليكس بالطبع أنتجت في العام الماضي «الملاك» الذي حكى قصّة جاسوسية مختلفة تتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي أيضاً. صانعو الفيلم كان فريقاً إسرائيلياً بدءاً من المخرج أرييل فرومن وامتداداً للكتاب والمنتجين والفريق الواقف خلف الكاميرا.

ما طرحه «الملاك» هي حكاية تحوّل شخصية سياسية عربية لجاسوس إسرائيلي. الشخصية هي أشرف مروان والممثل الذي قام بدوره هو مروان كنزاري والعمل كان فيلماً من أقل من ساعتين جلّه عن كيف انساق المسؤول المصري، لدوافع متعددة يخفق السيناريو في تحديد مبرراتها الفعلية، للعمل لصالح الموساد ومحاولته تحذيرهم من حرب أكتوبر (تشرين الأول) المقبلة (1973) في الوقت التي تهتز فيه ثقة زوجته (ميساء عبد الهادي) به ويشرف على تعريض حياته للاغتيال على أيدي الموساد في بعض أنحاء لندن.

لم يكن الفيلم برداءة السيناريو الذي كُـتب له. هو في صلبه تشويق جاسوسي يستفيد من إحدى المراحل الرئيسية في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي ويحاول البقاء في منطقة لا يتعرض فيها لأحد ولو أن الموساد يبدون هنا كما لو كانوا لا يستحقون تلك الخدمات الجليلة التي قدّمها أشرف مروان لهم حالما قرر التحوّل إلى جاسوس يستقي معلوماته من قصر الرئاسة المصري نفسه.

ليس في الفيلم دافعاً واحداً للخيانة بل عدّة دوافع لكن ليس منها ما هو واضح. هل هو انزعاج مروان من معاملة جمال عبد الناصر (أداه وليد زعيتر الذي يؤدي دور الكولونيل أمين الحافظ في «الجاسوس») له أم نتيجة إعجابه بجاسوس عمل لصالح المخابرات البريطانية والنازية معاً. أو لعل حبه للقمار الذي كاد أن يفلسه دفعه لمثل هذا التوجه؟

ما تمتع به «الملاك» ولم يتمتع به مسلسل «الجاسوس» هنا، إخراج توظيفي جيد للحكاية وتمثيل أفضل قدمه التونسي مروان كنزاري.‫ في المقابل هناك ضعف في كل المشاهد التي تجمعه مع زوجته واستسهالاً في التفاصيل (أمر لا ينجو منه «الجاسوس») واستخدام الحوار لتفسير ما يمكن للصورة التكفل به. تظهر ‬الموساد هنا كقوة طاغية وذات قرارات خاطئة. أما أشرف مروان فيبقى شخصية غامضة والأجدى كان منحه بطانة نفسية وسياسية عميقة لكي يُـفهم.

بعض الأسئلة التي تتوارد بمناسبة هذين الفيلمين، أو بسبب من طرح حكاية إيلي كوهين، تتمحور حول ما إذا كان الهدف من وراء مثل هذه الأفلام تلميع صورة إسرائيل غير المستقرة في الوقت الراهن.

لقطة من مسلسل {الملاك} من إنتاج نتفليكس

لكن ليس علينا أن نأخذ المسلسل (أو الفيلم السابق) كجزء من مخطط لأن الرأي العام اليوم لم يعد يُساق جمعياً كما كان حاله في الخمسينات مثلاً. تأثير السينما عليه لم يعد كما كان في السابق. قبل خمسين سنة كان من السهل «تجييش» الرأي العام بطرح أفلام بروباغاندا، فإذا بغالبية الناس تتبنى ما يرد في الفيلم من رسائل وأبعاد. لكن الوضع اليوم مختلف. معظم الناس بات لديها قناعة بأن الظاهر لا يعكس الباطن وأن لكل نتاج أدبي أو سينمائي مصدره الذي يستدعي التحقيق. الأمور بالتالي لم تعد سهلة لإقناع أحد بصواب طروحات فيلم ما من دون نقاش. هذا يمتد على طول القطاع الداخلي أو الخارجي.

كذلك ليس «الجاسوس» على علاقة بتوقيت معيّن يستفيد منه. نعم هو تلميع دولة واصطياد عكر في باطن دولة أخرى، لكنه فيلم كان يمكن إنتاجه قبل عشر سنوات أو بعد عشر سنوات من دون تغيير يذكر. ما يتمثل في هذا المسلسل هو رغبة «وطنية» من صانعيه لتقديم عمل يفتخر بما حققه إيلي كوهين لوطنه في فترة سابقة.

طبعاً في علم صانعي المسلسل أن الأوضاع بين سوريا وإسرائيل (وأوضاع الشرق الأوسط بأسره) ما زالت صالحة لإطلاق هذا الفيلم. بالتالي، المصلحة الوطنية مرتبطة كذلك بمصلحة تجارية. المسلسل يمثل إنتاجاً معلّباً بطبيعته ليغزو البيوت كعمل ترفيهي لا يطرح حقائق عامّة حول الصراع ولا يتحدث في السياسة رغم أفكاره ونواياه.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي