«ستيكس» للألماني وولفغانغ فيشر: قوارب الهجرة في تناول سينمائي إنساني

خدمة الأمة برس
2019-08-20

 سليم البيك

 
 
يمكن لأي مسألة إنسانية أن تكون موضوعاً جيداً لفيلم سينمائي، أو لنقل أي أزمة إنسانية راهنة، خاصة إن كان الفيلم ينقل راهنيةً ما، وبالتالي يضمن مُشاهَدة ما، فهنالك نسبة من المشاهدين تتابع ما يجري حول العالم، أو في بلدانها، وهي بشكل أو آخر معنية بالعلاقة التي تخصها، كمواطنين في بلد ما، بهذه الأزمة أو تلك، بالتالي، يكون نقل الفيلم، أي فيلم، لأي أزمة إنسانية، جاذباً لاهتمام المشاهدين، ما يجعل راهنية الفيلم نقطة إضافية تُحسب له جماهيرياً (لكن الراهنية ذاتها يمكن أن تكون عبئاً على الفيلم ما لم يكن الموضوع جيداً).
 
ما المقصود بالموضوع الجيد في السينما؟ هو المضمون (الحكاية، الفكرة، الشخصيات) الذي يقدم مادة درامية جيدة لكاتب سيناريو ومخرج، تسهل مهمتهما في صناعة الفيلم بتناول موضوع كهذا. هي سهولة يمكن أحياناً أن تتحول إلى ابتذال، لكن ليس هذا ما أريد خوضه هنا. لنبقَ في «الموضوع الجيد»، وهو حال فيلمنا هنا، إذ كان الموضوع جيداً، وكان نقله/شكله كذلك جيداً.
 
لندخل في فيلمنا هذا، اسمه «ستيكس» (Styx)، وهو اسم إله الموتى، الذي يشكل الحدود بين سطح الأرض والعالم التحتي، في الحضارة الإغريقية. وللاسم علاقة أساسية مع موضوعه، الذي يدور حول سفينة مهاجرين تتعرض للغرق وهي في طريقها إلى أوروبا، وهذا موضوع له راهنيته، وبالتالي الأبعاد غير السينمائية التي يمكن لأحدنا أن يهتم بها، ولا يُحسب ذلك بالضرورة على الفيلم، ولا له، ما يحدد ذلك هو الجودة التي قدم بها الفيلمُ الموضوع.
 
طبيبة ألمانية تأخذ إجازة وتعد يختاً لتخرج إلى جزيرة خضراء، تمضي وقتاً عادياً فيه، بين تصفح كتب والأكل والاهتمام باليخت، كلما تقترب من قارب (خفر سواحل مثلاً) يتم الاتصال بها بشكل طبيعي، لمعرفة توجهاتها، والتأكد إن كانت بحاجة لمساعدة ما. بعد ليلة عاصفة، نهاراً، تجد قارباً تقترب نحوه لتعرف أنه قارب لمهاجرين أفارقة. ترى بعضهم يقفز منه إلى البحر فتدرك ما يحصل وتتصل تطلب استغاثة.
 
تتصل مجدداً ومجدداً، كلما رأت أن الوضع يتأزم. كل ما يصلها من الاتجاه الآخر هو أن لا تتصرف وأن تبتعد عنهم، وأن المساعَدة في طريقها. تتصل مجدداً حين لا يأتون وتسمع الكلام ذاته، وكان تحذيراً لها بأن لا تقترب ولا تحاول إنقاذ أحدهم.
ترمي طوق نجاة لطفل كان قد قفز وسبح تجاهها، رفعته إلى سفينتها وابتعدت قليلاً، قدمت له الإسعافات الأولية اللازمة وواصلت اتصالها للاستغاثة، ولا تسمع سوى أن المنقذين (المفترضين) في طريقهم، وأن لا تتصرف هي كي لا تُفاقم الوضع.
بقي الأمر على حاله، لم يصل أحد، استعاد الطفل وعيه وحاول الذهاب باليخت إلى أهله لإنقاذهم. واصلت الطبيبة محاولاتها لطلب الاستغاثة إلى أن قررت أخيراً أن تتصل وتقول إن يختها هي يغرق، أوصلت رسالتها مرة وأغلقت كل أجهزة اليخت اللاسلكية كي لا يتمكنوا من الاتصال بها، واقتربت من القارب المهترئ، جزءٌ منه ممتلئ بالماء، ومن بقي فيه هو غائب عن الوعي أو ميت. من هنا يكمل الفيلم طريقه إلى نهايته.
 
لا حكاية هنا، لا شخصيات تتطور، الموضوع باختصار هو أن طبيبة أوروبية تخرج بيختها وتجد قارباً مليئاً بمهاجرين، وتطلب استغاثة لهم ولا يأتي أحد. لكن تصوير الفيلم لذلك كان مناسباً، كان سبباً (إضافة إلى الاستخدام الجيد لراهنية الموضوع) في جعل الفيلم جيداً. فالطبيبة التي نراها في بداية الفيلم تسعف أحدهم إثر حادث سيارة، لا تستطيع، كإنسانة أولاً، لكن أساساً هنا، كطبيبة، أن تترك أحدهم يموت أمامها، بدون أن تتصرف، وإن كانت عاجزة، بشكل ما عن الإنقاذ.
 
أما كيف قدم الفيلم كل ذلك، فكان بنصف ساعة هانئة وهادئة من عمر الفيلم، صورت بدايات رحلة الطبيبة، فلا نرى سوى الزرقة في البحر والسماء، ونراها تمضي وقتها مسترخية، بعد عملها المنهك كطبيبة لحالات الطوارئ. هو استرخاء لدى المشاهد كما هو لدى الطبيبة، إذ بالكاد نسمع كلاماً خلال نصف ساعة، بل صوت البحر يُضاف إلى أصوات خفيفة هنا وهناك. كل ذلك ينقلب متى أدركت الطبيبة أن ما تراه هو سفينة لمهاجرين، وأنها تغرق، إذ قاربَ الفيلمُ بين التناقضين.
 
الفيلم الذي كان جيداً شكلاً كما هو موضوعاً، كان رسالة إنسانية مناهضة لحالات التجاهل التي يتلقاها المهاجرون من كل العالم إلى أوروبا، رسالة لقضية راهنة قرأنا عنها مراراً، ومؤخراً في محاولة للسلطات الإيطالية محاكمة بحارة حاولوا إنقاذ مهاجرين. نال الفيلم الذي أخرجه الألماني وولفغانغ فيشر جوائز عدة، بعضها من مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الأخيرة.
 
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا
 






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي