موسى والتوحيد لفرويد: محاولة تخليص اليهودية من دمويَّة ‘يهوه ‘

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2013-05-13

 مهدي نصير

 
موسى والتوحيد’ هو الكتاب الأخير الذي صدر لفرويد في حياته، حيث صدر هذا الكتاب في لندن عام 1938، أي قبل عامٍ واحدٍ من وفاته .
سأحاول في هذه القراءة التعليق والإشارة لبعض الملاحظات المحورية التي استند عليها الكتاب أو حاول إنشاءَها وترويجها عبر فصوله المتعدِّدة ومناقشاته الشيِّقة والعميقة والذكية والمستفيضةُ حيناً والمبتسرةُ حيناً آخر، وسأحاول ذلك عبر الملاحظات التالية :
أوَّلاً: حاول فرويد بشتَّى الأساليب إثبات أن النبي موسى كان مصريَّاً وليس يهودياً، وأنه كان أحدَ قادةِ أخناتون أو أمنحوتب الرابع آخر فراعنة الأسرة الثامنة عشرة وساقَ الأدلة اللغويَّة والتأويلية والتخمينية على ذلك لتأسيس مقولته الأساسية الأولى والمتضمنة أن التوحيد اليهودي في مراحله المتأخرة كان امتداداً للتوحيد الفرعوني الذي أرساه أخناتون ومن بعده موسى، والذي حسب رؤية فرويد دخل في مرحلة كمون في فترة التيه وبعد حادثة اغتيال موسى، كان هذا البحث في أصول موسى العرقية والفكرية والدينية مقدمةً لا بدَّ منها للتقدم في البحث لمقولاته الأكثر خطورة وجذرية .
 
ثانياً: حادثة ‘اغتيال موسى’ – وكما يشير فرويد نفسه هي تخمينٌ وافتراض وقام فرويد بإسناده ذهنيَّاً عبر سلسلةٍ من التأويلات لبعض المأثورات اليهودية غير الرسمية وبعض الأبحاث التاريخية الغامضة، وهي حادثةٌ لا دلائلَ تاريخيةٌ أو إخباريةٌ أو دينيةٌ تشير إليها، ولكنها كانت ضروريةً للنموذج الذي بناه فرويد لتحليل التاريخ وفقاً لأدوات التحليل النفسي والتي يُمثِّل قتل الأب البدائيِّ محوراً أساسيا فيها. 
ثالثاً: تأسيساً على الفرضيتين المشار إليهما أعلاه انطلقَ فرويد في تحليل التوحيد اليهودي باستخدام أدوات التحليل النفسي الفردي ومحاولاً أن يجد في التاريخ ما يُسند رؤيته في أن ما ينطبق على علم النفس الفردي يمكن تطبيقه على علم النفس الجمعي أو التاريخ البشري مع بعض التحويرات المتعلقة بالمادة العلمية التي يمكن ببساطة الحصول عليها من الفرد ولكن يصعب الحصول عليها من التاريخ .
 
رابعاً: ربَّما كان الحلم البعيد لفرويد هو أن يُقيم قنطرةً كما تحدَّثَ في أكثر من فقرةٍ وموقع في هذا الكتاب بين علم النفس الفردي وعلم النفس الجمعي، وبحيث يُصبح من الممكن معالجة أمراض وعُصابات الشعوب بنفس طريقة التحليل النفسي للأفراد وذلك عبر التحليل النفسي للتاريخ، وهذا يمثِّل مغامرةً ورؤيةً شعريةً للتاريخ حاول فرويد أن يقتحمها، مع إحساسه كما بيَّن ذلك في ثنايا الكتاب من خطورة وصعوبة ومثالية ما يسعى إليه .
كيف عالج فرويد العقبات التي كان يعيها جيداً والتي تقف في وجه استخدام أدوات علم النفس الفردي في تحليل التاريخ عبر علم النفس الجمعي وأدواته التي ما زالت ملتبسة؟
لإضفاء نوع من العلمية استخدم فرويد بعض منجزات العلوم الحديثة كالبيولوجيا وعلم الأمراض وعلم الحيوان والانثروبولوجيا وغيرها في محاولةٍ يائسةٍ لإقامة معماره الذهني الباذخ وإدخال التاريخ البشري لغرفة التحليل النفسي في هذا المعمار الذهني الآسر .
أولى العقبات التي استشعرها فرويد بحساسية عالية وخوفٍ عميق هي : كيف يمكن فهم ما سمَّاه الرضَّات الطفولية في الأفراد (حتى سنِّ الخامسة) على مستوى التاريخ وعلم النفس الجمعي الذي كان يبحث ـ وفق نموذج فرويد المقترح – عن مكوِّناته عبر مكوِّنات علم النفس الفردي؟ ثُمَّ كيف يمكن تجاوز الحقيقة العلمية القائلة أن الصِّفات والحوادث المكتسَبة لا تُورَّث؟ إذن كيف تمَّ توريث هذه الرضَّات الجمعية في طفولة التاريخ البشري وعبر أيِّ وسيطٍ تمَّ ذلك التوريث ؟
 
للخروج من هذا المأزق الكبير اقترح فرويد بعجالةٍ أن الرضَّات التاريخية القديمة في طفولة التكوين البشري كتاريخ تحوَّلت إلى غرائز كما هي غرائز الحيوانات !!، وعبر هذه الغرائز انتقلت الحوادث والرضَّات القديمة إلى العقل الجمعي وتمَّ توريثها للجنس البشري !!، وهنا كان تعسُّف فرويد وتعجُّله في حلِّ هذه المعضلة الكبرى دون الاستعانة بعلوم أخرى قد تؤسِّس فعلياً لعلم النفس الجمعي، وهذا ما لا يريده فرويد، لذلك كان هذا التعسُّف غير العلمي والذي يتناقض مع أبسط قواعد علم الوراثة الذي يتحدَّث عن توريثٍ جينيٍّ وليس توريثَ أحداثٍ متغيِّرةٍ ورضَّاتٍ تاريخيَّةٍ حصلت في طفولة الجنس البشري .
 
كان واضحاً في نقاشات الكتاب والتفافات فرويد التأويلية انه يعي بعمق مشروعية الاعتراض على توريث الرضَّات الطفولية للجنس البشري، وكان واضحاً أيضاً انه غيرُ مستعدٍ لإدخال حلولٍ أكثر علميَّةٍ وأكثر مشروعيَّةٍ لنواقل الرضَّات التاريخية القديمة عبر اللغة والألسنيات والأسطورة والمأثورات الشعبية .. الخ، وربَّما أيضاً كان هذا الاستبعاد للغة والألسنيات تحديداً عن هذا السياق له أسبابه المتعلِّقة بنسبية اللغة وتعددها وصعوبة إطلاق مورِّثاتها الجمعية على مستوى الجنس البشري كله واقتصارها على مستوى أبناء اللغة مما يجعل من علم النفس الجمعي خاضعاً لمعايير قومية وعرقية وغير مطلقةٍ ولا يمكن تعميمها كعلمٍ للجنس البشري، مما يُفقد هذا العلم صفته العلمية التي تنطبق على الجنس البشريِّ برمته، وهذا ما دفعه للبحث عن مورِّثٍ عام يحتوي الجنس البشري برمته ألا وهو الغرائز (التاريخية) إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح في هذا السياق .
أما العقبة الثانية والهامة والتي واجهت فرويد في تشكيل نموذجه الجمعي ومسعاه العميق لإقامة قنطرةٍ بين علمي النفس الفردي والجمعي كانت في عدم قدرته على إيجادِ نموذجٍ تاريخيٍّ واحدٍ متكاملٍ يكون بحوادثهِ وأحداثهِ قادراً على إقامة هذه القنطرة المفترضة دون تعسُّفٍ وتأويلٍ مرهق .
 
أيضاً كان الحل الذي اقترحه فرويد لهذه المعضلة هو إعادة ترميم التاريخ اليهودي عبر افتراضاتٍ مدروسةٍ لتشكيل النموذج المطلوب والقابل للتحليل وفقاً لآليات التحليل النفسي الذي برع فيه .
عبر 194 صفحة من التأويلات والتحليلات الذكية والحاذقة والمدهشة والشِّعرية قادنا فرويد متكئاً على ذكاءٍ وثقافةٍ وقدرةٍ ذهنيةٍ عاليةٍ إلى التعامل مع مقولاته وتخميناته اللاتاريخية التي استندت أوَّلاً لنموذجٍ مسبقٍ قام بالبحث عن ملءِ فراغاته التاريخية باتجاهِ هدفين جوهريين قادنا إليهما بذكاء: أولهما إقامة القنطرة المفترضة بين علمي النفس الفردي والجمعي وإخضاع التاريخ لتحليلٍ نفسيٍّ وتوصيفِ أمراضه كعُصاباتٍ وذُهاناتٍ جمعيَّةٍ بذات الأدوات التي اعتاد استخدامها في التحليل النفسي للمعصوبين من الأفراد، وثانيهما وهو الأهم والأخفى في فترةٍ تاريخيَّةٍ اشتدَّ فيها العداء لليهود في أوروبا وتمثَّل في محاولة تخليص الدين اليهودي واليهود من دمويَّة ‘يهوه’ والتنصُّل منه كإلهٍ غير يهوديِّ النسب واعتباره إلهاً من آلهةِ قبائل الساحل الغربي للجزيرة العربية التي ـ كما يقول فرويد – كان يكثرُ بها في تلك
 
المرحلة المبكِّرة (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) البراكين النشطة، باعتبار أن ‘يهوه’ كان إلهاً للبراكين، يقول فرويد في هذا الكتاب: ان المفارقة الشائنة هي أن ‘يهوه’ في صورته الأولى كان اقرب لـ’بعل’ منه للإله المصري ‘أتون’ وأنه كان مقيماً في جبلٍ من الجبال البركانية في غرب الجزيرة العربية وكان يعبده بعضُ أنسباءِ بني إسرائيل الخارجين من مصر بقيادةِ موسى والذين انتشروا بين هذه القبائل القريبة منهم بالنسب والأصل البعيد كالأدوميين والمديانيين، ويستطرد فرويد واصفاً اليهود بعد اغتيالهم لـ’موسى’ في سيناء: أنهم ارتدُّوا عن ديانة ‘أتون’ المصري التوحيدية الروحانية وقاموا بعقدِ صفقةٍ مع أنسبائهم في قادش تمَّ على إثرها تنصيب ‘ يهوه ‘ الدمويِّ إلهاً قبليَّاً لهذا التجمع الذي ضمَّ بني إسرائيل وأنسبائهم واصفاً ـ أي فرويد – هذا الحلف الذي فرضته مرحلة تطور بني إسرائيل القبليَّة وحلفائهم والذين كانوا يحضِّرون أنفسهم لغزوِ بلاد كنعان، البلاد التي وعدهم بها ‘يهوه’ كحلمٍ قديم لهذا الإله غير اليهودي وفقاً لتحليل فرويد – بامتلاك أرض كنعان والسيطرة وإخضاع الكنعانيين لملكوته . 
 
تاريخيَّاً ليس هناك ما يدلُّ على أيِّ نسبٍ لـ’يهوه’ بأيٍّ من عائلات الآلهة التي انتشرت في الجزيرة العربية أو بلاد الشام أو العراق، وأظنُّ أن القرابة التي قفز عنها فرويد هي العلاقة بين ‘يهوه’ كإلهٍ للبراكين وبين ‘أتون’ إلهِ الشمس المصري، ولا يخفى الارتباط بين الشمس والبراكين وبين ما يعنيه اسم ‘أتون’ والبراكين، ولكن هذا الاتجاه بنسبة ‘يهوه’ إلى ‘أتون’ ينسف مقولةً تاسيسيَّةً من مقولات فرويد التي جعلت من ‘يهوه’ إلهاً قبليَّاً دمويَّاً غريباً احتلَّ مؤقتاً مكان ‘أتون’ إله موسى القتيل الذي كَمَن في المأثورات الشعبية اليهودية وعاد فيما بعد ليحتلَّ صورة وشكل ومضمون ‘يهوه’ بإعادته لصورة ‘أتون’ إله موسى: صورة الأب البدائيِّ القتيل بروحانيته العالية . 
بعد ذلك قام فرويد ببناء نموذجه المستند على قتل الأب البدائي ويمثّله موسى في النموذج والانقضاض على إرثه وكمون ديانتهِ التوحيدية الصافية والعالية عبر المأثورات اليهودية غير الرسمية والتي استطاعت الصمود ومن ثمَّ الصعود لتحتلَّ وتُعدِّل صورة ‘يهوه’ القبلية والدموية إلى صورة ‘أتون’ الروحانية الأكثر تطوراً وسمُّواً، وهذا أيضاً تعسُّفٌ غيرُ تاريخيٍّ ولا يجد تاريخاً فعليَّاً يُسنده. 
 
في متن هذا الكتاب الشيِّق والذكيِّ والمليء بالتحليلات والتأويلات التي كانت تصبُّ في تعزيز نموذج فرويد في هدفيه البعيدين اللذين كان يأمل بترويجهما ولو على سبيل الاقتراح أو المحاولة كما كان يطالب فرويد قارئيه عندما كانت تواجه نموذجه عقبات علميةً وتاريخيةً حقيقية .
هذا الكتاب كان مغامرةً ذهنيَّةً وعقليَّةً وكان محاولةً – لم يُكتب لها النجاح لمدِّ سلطان التحليل النفسي الفردي إلى مجاهل التاريخ وعوالمه وأبنيته المليئة بالتحديات والمليئة بالفجوات والمفتوحة على كل العلوم الإنسانية .






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي